على الرغم من النجاح الذي حققته فكرة اعتصام مجموعة من المثقفين واحتلالهم لمكتب وزير الثقافة الدكتور علاء عبد العزيز، احتجاجا على سياساته، فإن من اللافت للنظر أن لا أحد يعرف ما الخطوة المقبلة، إذا ما تمكن المعتصمون من كسب المعركة وإجبار الحكومة على تغيير الوزير. وبسبب غياب السؤال عن الخطوة المقبلة في النقاش الدائر في الإعلام عما يجري في وزارة الثقافة، فإن الكثير من المهتمين بالعمل الثقافي يتحفظون على فكرة الاعتصام، ليس قبولا لأفكار الوزير الذي لم يقدم حتى الآن تصورا واضحا لسياساته الثقافية، وإنما إدراكا لفكرة تشغلهم وتتعلق بأهمية خلق مفاهيم جديدة للعمل الثقافي بعيدا عن شخصية الوزير أي وزير وتوجهاته. والأغرب ألا أحد حتى الآن اهتم بالتوفيق بين رؤية المعتصمين وبين الرؤى التي بلورها المعنيون بالسياسات الثقافية، بسبب تشكك كل طرف في نيات الطرف الآخر، فالمعتصمون في شارع شجر الدر يعتقدون أن من بعض من يطرحون أفكار السياسات الثقافية تقف وراءهم مؤسسات التمويل الأجنبي، وهي مؤسسات لها أجندات غير وطنية بحسب تصورهم، في حين يرى المبادرون لتعميق مفهموم السياسات الثقافية أن عناصر كثيرة هى التي تقف مع الاعتصام أصحاب مصلحة في إبقاء الأوضاع في وزارة الثقافة عما كانت عليه بأمل الاستفادة من وضعها البيروقراطي دون التفكير في تقديم خدمة ثقافية حقيقية. وبعيدا عن هذا السجال بات من المؤكد أن السؤال عن السياسات الثقافية التي تلائم مصر مستقبلا هو السؤال الغائب عن القارىء العادي، وهو أيضا الغائب عن الوزير الذي لم يفكر في فتح نقاش حول سياسة ثقافية جديدة، مكتفيا فقط بعملية التجريف التي يقوم بها واستهداف منتقديه بتصريحات نارية دون أن يتوقف لحظة ليقول لنا خطته التي جاء من أجل إقرارها، في حين أن الوقائع تشير أن هناك مجموعة من المبادرات لتطوير العمل الثقافي طرحت قبل الثورة وبعدها، وهذه المبادرات على وشك التبلور لخلق سياسات ثقافية جديدة بالفعل. مبادرة عادل السيوي وكانت مبادرة الفنان التشكيلي عادل السيوي واحدة من أبرز المبادرات التي طرحت في أعقاب ثورة 25 يناير، وجرى نقاش مطول حولها بين وزير الثقافة الأسبق الدكتور عماد أبو غازي ومجموعة من المثقفين، وتخلصت رؤية السيوي في تطوير عمل المجلس الأعلى للثقافة ليتولى تخطيط الثقافة ومراقبة أداء الوزير بصورة من صور الاستقلالية. وتقوم رؤية السيوي على أهمية إصدار قانون جديد بخصوص المجلس الأعلى للثقافة، ينص على كونه مجلسا مستقلا يرأسه أمين منتخب، وأن توصياته ملزمة لوزارة الثقافة، وأنه مكلف بمهمة وضع السياسات الثقافية والخطط والبرامج التى يتعين على وزارة الثقافة العمل على ترجمتها إلى واقع ملموس، وأن تكون للمجلس سلطة التدخل والتعديل وتقويم أداء الوزارة وتقييم المردود وإطلاق المبادرات، بهدف تخليص الخطاب الثقافي (بجانبيه الأهلى والرسمي معا) من رواسب التبعية للخطاب السياسي، إضافة إلى توطين ثقافة التعددية والاختلاف، وتقويض أشكال الوصاية المختلفة على العقل وعلى الإبداع، مع فتح المجال لمساهمات الأجيال الجديدة، بحيث يتحرك الوضع الثقافي نحو المستقبل ولا يتمترس خلف مكتسبات وثوابت وهمية، أو يصر على شخصيات ورموز انتهت صلاحيتها. والأهم تفعيل مشاركة المثقفين والفنانين والأدباء فى صنع القرارات المتعلقة بالشأن العام، مد جسور للتواصل بين المؤسسات الثقافية الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني العاملة فى مجال الثقافة والفنون، فضلا عن التخلص من ركام النشاطات المستهلكة التى بددت الطاقات بلا جدوى، والبحث عن مناطق جديدة ومبتكرة للتحرك سواء محليا أم إقليميا وللتفاعل مع المواقع الثقافية الفاعلة في عالمنا المعاصر، خصوصا مع ما أهملناه لعقود مثل مراكز الحراك الثقافي فى أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. الغريب أن جانب من هذه التصورات نوقش فى ورشة عمل أدارها الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة عز الدين مشير أنتهت إلى وضع خطة للإصلاح لم يعلن عنها حتى الآن وهذا لغز كبير. مبادرة المجموعة الوطنية وقبل إطلاق هذه المبادرة لإعادة هيكلة المجلس الأعلى للثقافة، عملت المجموعة المصرية للسياسات الثقافية على تطوير مقترحها لخلق سياسة ثقافية جديدة، وعرض هذا المقترح على لجنة الثقافة بمجلس الشعب قبل حله، وتتخلص المبادرة التي وقفت وراءها مؤسسة المورد الثقافي في مجموعة من النقاط، وتمت تعريف السياسة الثقافية بأنها خطة عمل يتقدم بها القطاع الثقافي للبرلمان للموافقة عليها وإقرار الميزانية الخاصة بتحقيق الأهداف المعلنة في هذه الخطة، وللبرلمان أن يسأل الحكومة عن تنفيذ تلك الخطة، يضمن وجود مثل هذه السياسة عدم إهدار الموارد المادية والبشرية، كما يضمن تكامل العمل الثقافي مع كل نواحي العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في خطة وطنية واحدة. وحسب رؤية المجموعة فإنه على الرغم من أهمية وجود تلك السياسة، لأي دولة فإن مصر لم تعتمد أبداً سياسة ثقافية واضحة ومعلنة، كانت هناك محاولات فردية يقول عنها البعض مجازا إنها سياسة ثقافية (مثل مبادرات طه حسين، بدر الدين أبو غازي، ثروت عكاشة، فاروق حسني) فإن هذه المبادرات تظل فردية وتفتقر إلى التعبير عن سياسة تخص مجتمعًا بكامله، فالسياسة الثقافية لابد أن توضع من قبل مجموعة تمثل تيارات المجتمع وكل أشكال التنوع فيه، ولابد أن تكون معلنة. والمجموعة الوطنية للسياسة الثقافية مكونة من 25 عضواً من المبدعين، وأساتذة الجامعات، والمختصين في الإدارة الثقافية، تتبنى هذه السياسة الثقافية المقترحة تعريف منظمة اليونسكو للثقافة بأنها:"جميع السمات الروحية، والمادية، والفكرية، والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات. والثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته، وتجعل منه كائناً يتميز بالإنسانية المتمثلة بالعقلانية، والقدرة على النقد، والالتزام الأخلاقي، وعن طريقها يهتدي إلى القيم ويمارس الاختيار، وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه، والتعرف على ذاته كمشروع غير مكتمل وإعادة النظر في إنجازاته، والبحث عن مدلولات جديدة، وإبداع أعمال يتفوق فيها على نفسه." وتستند أيضاً إلى عدد من الاتفاقيات الإقليمية والدولية التي وقعت عليها مصر في مجال الثقافة والتي تعني بالأعمال الثقافية المعاصرة والصناعات الثقافية، وتضمن تلبية الاحتياجات الآنية والمستقبلية لهذه المجالات وللعاملين فيها. ووفقا لهذا التصور فإن السياسة الثقافية المقترحة تلتزم بالتالي الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، وهي هوية متعددة الروافد ترسخ جذورها في التراث الثقافي، الإسلامي، والعربي، والمصري القديم، والقبطي، والإفريقي، والمتوسطي. وهي هوية حية، تتجدد باستمرار وتتفاعل مكوناتها مع تطورات الحياة في مصر وفي العالم، ومع الإنتاج الثقافي المعاصر، لتصبح في حالة حيوية مستمرة. إلى جانب الإقرارالبعد الثقافي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية: الثقافة مكون أساسي في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تؤثر فيها سلباً وإيجاباً، لذا لا يمكن عزل التنمية عن احتياجات وضروريات بناء الإنسان ثقافياً، أي معرفيا ووجدانيا. كما لابد أن تلتزم السياسة الثقافية للدولة بتقنين آليات تتيح الشفافية الكاملة بحيث تكون كل المعلومات المتعلقة بمجال الثقافة متاحة سواء للمؤسسات الرقابية أم مؤسسات المجتمع المدني أم المواطنين بشكل عام. ويستلزم ذلك أن تتضمن السياسة الثقافية مؤشرات وأدوات تقييم ومراجعة ملائمة ومنتظمة، كما يجب عقد مؤتمر وطني ليصدّق على ويتبنى الصيغة النهائية لها. ولتحقيق هذا الهدف العام حددت هذه السياسة الثقافية الإستراتيجيات التالية خلال السنوات الثلاث المقبلة: تحديد الميزانية الخاصة بالثقافة ب 1.5% من الموازنة العامة للدولة، وإعلان تفاصيل هذه الميزانية. إلى جانب الحد من مركزية الثقافة، سياسيًا، وإدارياً، وجغرافياً، وعلى هيمنة العاصمة والمدن الكبرى على الحياة الثقافية، والدعوة لخلق سياسات التكامل بين السياسة الثقافية وسياسات التعليم في مصر بدءاً من التعليم الأساسي، والارتقاء بتعليم الفنون بشكل متخصص، ودعت المبادرة الىإعادة هيكلة وزارة الثقافة وكل الأطر المتعلقة بتمويل الثقافة وإدارتها بهدف تمكين المجتمع المدني من لعب دور فاعل في الحياة الثقافية، وزيادة الشفافية ومنع الفساد. وطالبت باحترام حرية العمل الثقافي وتنقية القوانين المقيدة للحريات الثقافية، وزيادة وعي المجتمع بأهمية احترام وحماية حرية الرأي والإبداع والتعبير، ورأت أن تحقيق هذه الأهداف يستلزم دعم التشاور والمشاركة بين كل القوى الاجتماعية والسياسية في وضع وتنفيذ السياسة الثقافية، واتخاذ كل السبل إلى احترام التنوع الثقافي في مصر واعتباره من الأصول المهمة للثقافة المصرية. ومن أجل تحقيق الهدف العام من هذه السياسة الثقافية من خلال الأهداف الفرعية السابقة، دعت اللجنة البرلمان للقيام بمراجعة وتطوير كل القوانين والتشريعات واللوائح المؤثرة في العمل الثقافي، مثل قوانين حرية التعبير والرأي والنشر، وتكوين الشركات ذات النفع العام، واستخدام الأماكن العامة، والضرائب، والجمارك، وتشغيل المواقع الفنية والثقافية، والملكية الفكرية، ورعاية الفنانين والأدباء وغيرها من القوانين بهدف تحقيق أهداف هذه السياسة الثقافية. كذلك مطالبة السلطة التنفيذية بتفعيل الاتفاقيات الإقليمية والدولية التي وقعت عليها مصر ولم تفعل مثل اتفاقية اليونسكو لحماية ونشر كل أشكال التعبير الثقافي (2005)، بحيث أن توزع الميزانية المخصصة للثقافة بشكل ديمقراطي وعادل على كل محافظات مصر تبعاً للتركيز السكاني فيها وتمشياً مع أولويات التنمية، مع مراعاة الاهتمام بالمحافظات المهمشة، عبر آليات ومعايير معلنة وشفافة تمكن الفاعلين النشطين في القطاع الثقافي من المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بتوزيع الميزانية في محافظاتهم، على المشروعات الثقافية والمؤسسات الثقافية المستقلة والمبدعين الأفراد، وعلى أن يراعي توزيع الميزانية التوازن بين الحفاظ على وتوثيق التراث الثقافي المادي والمعنوي وبين دعم وتشجيع الإبداع المصري المعاصر. إعادة صياغة دور وزارة الثقافة بحيث تقوم بالتنسيق بين الوزارات المختلفة من أجل ضمان أن تلعب المؤسسات الحكومية الدور المنوط بها في تنفيذ هذه السياسة الثقافية في جميع قطاعاتها مع إصلاح وزارة الثقافة إدارياً بشكل تدريجي وحل مشكلة تضخم العمالة بها، مع تخلي الوزارة عن لعب دور المنتج والموزع للخدمات والمنتجات الثقافية وقيامها بدور الممول والراعي للعمل الثقافي. تقترح أيضاً السياسة إعادة دمج وزارتي الثقافة والآثار في وزارة واحدة، والتحول من نمط "الإدارات الحكومية" إلى نمط "المؤسسات العامة" الذي يضمن استقلال الثقافة مع التأكيد على أهمية إشراك المؤسسات الثقافية المستقلة بشكل فاعل في وضع وتنفيذ ومراقبة وتقييم هذه السياسة الثقافية، ويستلزم ذلك إيجاد أطر قانونية مناسبة تضمن سهولة إنشاء وعمل مؤسسات ثقافية أهلية تختلف في طبيعة عملها جذرياً عن الجمعيات الأهلية التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، مثل الشركات ذات النفع العام، وتيسير وتوحيد الإجراءات القانونية المتعلقة بإنتاج وتوزيع الخدمات والمنتجات الثقافية. وفي هذا السياق دعت المجموعة إلى التزام المؤسسات الثقافية المستقلة بأساليب الإدارة الجيدة للمال العام وبالشفافية في الإعلان عن ميزانياتها ومصادر تمويلها واحترام تلك المؤسسات للقوانين المتعلقة بالعمل الثقافي السارية في مصر، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تطوير هذه القوانين لضمان تحرير العمل الثقافي.