- "السياسات الثقافية" تعمل ضد الثقافة الوطنية منذ 60 عام - مصر تحتاج إلى مواجهة حقيقية مع الذات أولًا وأخيرًا بعد توجه وزير الثقافة المصري، محمد صابر عرب، إلى روسيا، طالبًا "الدعم الثقافي" لمصر، في ضوء إعادة ترتيب العلاقات بين البلدين، ولاقت تصريحاته انتقادات واسعة من جانب المثقفين المصريين، كان أكثرها انتشارا على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" ما كتبه الدكتور أشرف الصباغ، الكاتب والصحفي المصري المقيم بروسيا. التقت «البديل» ب"الصباغ"، وتحدث عن رؤيته للعمل الثقافي في مصر وما يقابله في دولة مثل روسيا التي لا يوجد بها "وزارة" تعنى بالثقافة، بينما فتحت أفقًا رحيبا لثقافتها الوطنية؛ فإلى نص الحوار.. ربما لا يتصور الكثيرون عدم وجود وزارة ثقافة، ويرفض ذلك الطرح من قبيل، أنه في تلك الحالة ينعدم دور الدولة في الانتاج والدعم الثقافي والتمنية الثقافية بمفهومها الواسع الذي يتعدى رعاية المثقفين أو منتجي الأدب والفن. - إذا أجرينا مقارنة سريعة بين دور الدولة، في بلد لاوجود لوزارة الثقافة به مثل روسيا، وبين مصر صاحبة وزارة عتيقة متعددة الهيئات، ماذا تكون النتيجة؟ لقد تم إلغاء وزارة الثقافة في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وظلت الآراء مختلفة حول الشكل الأمثل الذي يجب أن تدار به المؤسسات الثقافية في روسيا المترامية الأطراف. ولأن روسيا ما بعد السوفيتية كانت تنوي قطع العلاقة تماما مع ما مضى، فقد تم طرح أشكال مختلفة للتنسيق بين المؤسسات الثقافية والفنية. وأصبحت "الوكالة الفيدرالية للثقافة" هي الرأس المنسق لسنوات طويلة. ومع تبدل التوجهات بشكل دوري، كانت الوكالة الفيدرالية هذه تتحول تارة إلى الوكالة الفيدرالية للثقافة والاتصالات، وتارة أخرى إلى الوكالة الفيدرالية للثقافة والسياحة… إلخ وعموما لم تكن مسألة التسمية (وزارة أو وكالة) هي الأمر الملح أمام الروس، وإنما منهج التنسيق بين المؤسسات الثقافية والفنية وإدارتها بالشكل الذي يخدم حيوية عمل هذه المؤسسات وينتشلها من البيروقراطية والفساد وتجريف ليس فقط المؤسسات، وإنما جوهر الثقافة والفن في البلاد. وكان أحد الأهداف أيضا هو تخفيف قبضة الدولة عن الثقافة والمؤسسات الثقافية لإشاعة أكبر قدر من الحرية في الإدارة وفي الإبداع علي حد سواء. وبالنسبة لوزارة الثقافة المصرية، فالأمر أكثر تعقيدا. إذ أنه مع تغير الأنظمة والتوجهات السياسية والثقافية طوال أكثر من 40 عاما، فلم يتم التعامل مع الثقافة كمنظومة مفاهيم أو المؤسسات الثقافية بشكل مرتبط ولو حتى مع التغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية. لم تجري محاولات بلورة رؤى وصياغات تتماشى مع التغيرات، بصرف النظر عن ما إذا كنا متفقين مع هذه التغيرات أم لا. ما تسبب بدرجات مختلفة في تجريف الثقافة كعملية وكمنظومة من جهة، وترهل المؤسسات الثقافية والفنية من جهة أخرى. وبالتالي، فأي وزارة ثقافة يمكن أن تكون لدينا؟!! هذا الكلام ليس له علاقة لا بالإحباط ولا بجلد الذات. إنه نظرة واقعية تماما ومؤلمة وجارحة. وبدون ذلك، سنظل نخدع أنفسنا ونعيش على الصورة النمطية الذهنية – النظرية التي نخلقها نحن عن أنفسنا، وتروج لها كواقع يجب أن نعيشه ونعبده في آن واحد. -في تدويتك المشار إليها، انتقدت اقتصار مفهوم الدعم الثقافي لدى "عرب" على الإداريات وإقامة المنشآت، فهل توضح لنا، مفهوم "الدعم الثقافي" في رأيك؟ أنا في الحقيقة لم أتحدث عن أي دعم للثقافة. ويمكن توجيه مثل هذا السؤال لمن تحدث أو طالب بالدعم الثقافي، أو ينوي تشكيل لجان وتنظيم زيارات لوفود من أجل "الدعم الثقافي"، وهو شكل من أشكال تبديد الأموال العامة أو أموال الدولة. وأنا بالفعل، لا أفهم حتى معنى الدعم الثقافي للإداريات والمنشآت. فالإدارة تحتاج إلى بلورة وصياغة رؤى وإجراء إصلاحات والاستفادة من الخبرات المحلية المتراكمة ووضع خطط وبرامج لعشرات السنين. المؤسسات تحتاج إلي أموال ومهندسين ورؤى معمارية وثقافية نابعة من صلب الثقافة المصرية. وإذا لم تكن في مصر مثل هذه الأمور، فالسؤال المهم هنا يطرح نفسه: ماذا كانت وزارة الثقافة ومؤسساتها تعمل طوال 60 عاما على الأقل في مصر؟!! وأين الكوادر الإدارية والخبرات الثقافية – التخطيطية المتراكمة؟ "دعم روسيا للثقافة المصرية". إن كلمة "دعم" بحد ذاتها، كلمة كريهة قبل أن تكون قديمة ومستهلكة وممجوجة. وهي عندما تقال في سياق الثقافة، لا تعبر إلا عن رؤى قاصرة وقديمة مثل العالم، وتعكس نمط التفكير ومنهج الرؤية للثقافة ومؤسساتها. وأنا لا أدري إلى الآن، ماذا يعني "دعم روسيا للثقافة المصرية". هكذا قرأنا الجملة في وسائل الإعلام! ومع ذلك، فهناك أشكال للتعاون الثقافي بين الدول، تقوم بتنظيمه إدارة "العلاقات الثقافية الخارجية" على المستوى الرسمي – الدعائي- وعلى مستوى "تبادل الخبرات الإدارية والإبداعية" والتنسيق في هذا المجال أيضا. وهناك أشكال التبادل الثقافي الذي يمكن أن تقوم به مؤسسات ثقافية وفنية مع نظيراتها في الدول الأخرى. والأخير أيضا رسمي ولكنه ليس دعائيا. وأشكال التعاون والتبادل الثقافية هذه هي بدورها شكل من أشكال تبادل الخبرات الإدارية والبرامجية. أما إعداد الكوادر (المنح التعليمية، الدراسات العليا، التدريب، الدورات"، فهذه الأمور بحاجة إلى دقة شديدة ويجب أن يخطط لها وفق الاحتياجات الضرورية، وليس مجرد إرسال بعثات تدخل فيها المحسوبيات والفساد التعليمي والإداري. ويجب أن تكون مرتبطة بالطاقة الاستيعابية للمؤسسات الثقافية والفنية في مصر. وإلا ستعود الكوادر لتجلس على المقاهي. - في رأيك.. هل تقف وزارة الثقافة عائقًا، أمام الحراك الثقافي المصري، ويجب إلغاءها كما ينادى بعض المثقفين، أم أن الثقافة المصرية في حاجة لتلك الوزارة الضخمة بهيئاتها المتعددة، وتحتاج لإعادة هيكلة وتفعيل؟ أنا مع الرأي الثاني. وسأعطي مثالا مهما ودقيقا متعلقا بالعلوم والمؤسسات العلمية. من الصعب أن تنشئ أكاديمية علوم إذا لم يكن لديك تقدما علميا (علم، مؤسسات علمية، مؤسسات بحثية). عندما يكون هناك تطورا أفقيا في مجال مجال، ندرك في مرحلة معينة ضرورة إجراء تطويرات رأسية، من هنا يتم وضع أساس لأكاديمية العلوم التي ستكون الرأس المفكر والمنسق للصرح الحضاري العلمي. هذا أيضا ينطبق على الثقافة. وإذا كان قد تم الاصطلاح على أن للثقافة وزارة أو وكالة، فلا ضير. ولكن ما هي خصائص ووظائف هذه الوزارة أو الوكالة؟ وما هي منهجية العمل وتوجهات السياسة الثقافية التي ستنشأ على أساسها هذه المؤسسة؟ بالمناسبة، وزارة الثقافة المصرية هي نسخة من وزارة الثقافة "السوفيتية"، حتى قصور وبيوت الثقافة هي نسخة سوفيتية أيضا. وروسيا تخلصت من كل ذلك، بينما بقيت عندنا الوزارة والقصور والبيوت! ومع ذلك، فقد تكون روسيا تقدمت أو اختلفت عن مصر خلال ربع القرن الأخير، بينما مصر لا تزال بحاجة إلى تلك الأشكال. إذن، نحن هنا أمام مشكلة داخلية ليس لها علاقة لا بروسيا ولا بما يسمى ب "الدعم الثقافي". إننا أمام مشكلة تخص مصر وتحتاج إلى مواجهة حقيقية مع الذات أولا وأخيرا. وبالتالي، فإعادة الهيكلة والتفعيل، بل واستقلال بعض المؤسسات التابعة للوزارة أمر لا مفر منه. فالمجلس الأعلى للثقافة يمكن أن يصبح هيئة مستقلة ماليا وإداريا. وأكاديمية الفنون ودار الأوبرا أيضا. ويتم استحداث نظام مالي وإداري ووضع منهج للعمل لا يتعارض مع عمل مؤسسات أخرى. لقد تحولت كل مؤسسات وزارة الثقافة إلى دور نشر ومطابع. وكأن 90 مليون مواطن في مصر لا يفعلون أي شئ سوى القراءة. في حالة الهيكلة، ستتضح الرؤية وستتبلور الرؤى العملية في الواقع. وسنعرف ماذا نحتاج بالضبط. وفي ضوء احتياجاتنا سنصيغ علاقات التعاون والتبادل الثقافية، وإعداد الكوادر. والمؤلم فعلا هو أن الحديث يدور وكأننا نضع أقدامنا على أول الطريق ونحتاج لمن يسحبنا كالعميان، ما يجعلنا نتساءل: ماذا كانت وزارة الثقافة تعمل منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين؟ وهذا السؤال غير موجه إلى المثقفين أو إلى الأجيال الثقافية المتعاقبة، وإنما إلى القائمين على السياسة الثقافية تحديدًا. إن القضية لا تتعلق إطلاقا بوجود وزارة الثقافة أو عدم وجودها، بقدر ما تتعلق بالسياسة الثقافية وتوجهاتها الاجتماعية، أي الطلب الاجتماعي على الثقافة. من هنا يمكن أن نتحدث عن شكل المؤسسة اللازمة، والكوادر الإدارية، ودور الدولة، والدور الاجتماعي للمثقفين في المجال الثقافي. أخبار مصر- البديل