ماذا بين المثقفين ووزارة الثقافة ؟ ولماذا كل هذا الجدل الغضب المتأجج حيال المؤتمر الذي عقد مؤخرا بعنوان «ثقافة مصر في المواجهة» وتلك الدعوات والبيانات لاقصاء وزير الثقافة من منصبه؟! وفي المقابل فان هناك مثقفين لهم وزنهم وتاريخهم المضيء أشادوا بالمؤتمر ونتائجه.. والحقيقة ان هذا المؤتمر وما حدث فيه وبعده فرصة لبحث أسئلة هامة حول دور هذه الوزارة وسياساتها ومفاهيمها ونظرة المثقفين لوزارة الثقافة. ومع ان الكاتب أحمد الجمال لم يتمكن «لظروف خاصة» من المشاركة في مؤتمر المثقفين فقد حرص على توجيه التحية وتثمين جهد الذين فكروا في المؤتمر واجتهدوا في التخطيط لأعماله واختاروا قضايا بعينها ودعوا المفكرين والمثقفين وأهل الخبرة للمشاركة. وقال أحمد الجمال:«هذا هو المنهج الذي أظنه مطلوبا وبشدة في المرحلة المقبلة من مراحل العمل الوطني المصري وأتمنى أن تسعى مختلف المؤسسات والتكوينات الشعبية المصرية إلى طرح القضايا التي تخصها على المهتمين بها لدراستها والوصول إلى نتائج». وعلى الجانب الآخر، فإن هناك أصواتا تنتمي للجماعة الثقافية المصرية تتحدث عن «اعادة انتاج الفساد» وبحث بعض المنتمين للمؤسسة الثقافية الرسمية عن «الغنائم» وممارسة ما يسمى «بالابتزاز الثوري»، و«ضرب استقلالية المثقف والثقافة عن أجهزة الدولة البيروقراطية»، و«تبديد ميزانية وزارة الثقافة في مؤتمرات لا طائل من ورائها كما هو الحال في المؤتمر الأخير»، حسب هؤلاء الغاضبين! ورغم الجدل الذي أثاره هذا المؤتمر وامتد لوزارة الثقافة، فإن الأصوات الغاضبة لم تتطرق لقضية هامة وهي دورهذه الوزارة في «تأسيس البنية التحتية للثقافة في مصر والنهوض بمهمة الصناعات الثقافية الثقيلة التي يتهرب منها رأس المال الخاص أو لا يقدر على تبعاتها». واذا كانت اعادة هيكلة المجلس الأعلى للثقافة وتأكيد حرية الابداع وزيادة الاعتمادات المالية المخصصة لوزارة الثقافة تتصدر أولويات العديد من المثقفين، فإن مؤتمر المثقفين المصريين الذي عقد تحت شعار «ثقافة مصر في المواجهة» قد أوصى بزيادة الموازنة المخصصة للنشاط الثقافي وتوجيهها لدعم الأنشطة المستقلة والحرة ودعم استقلال المجلس الأعلى للثقافة وفق تصور ديمقراطي. ودعا هذا المؤتمر للعودة للدور الأصيل للمجلس الأعلى للثقافة في رسم السياسات الثقافية للبلاد والاشراف على متابعتها وتنفيذها وان تكون قراراته ملزمة لقطاعات الدولة المختلفة واختيار امين عام المجلس بقرار من رئيس الوزراء بناء على ترشيح أعضاء المجلس المنتخبين وأن يكون للمجلس وضع مؤسسي يضمن استقلاله في الدستور. وكان الناقد والفنان التشكيلى عز الدين نجيب قد دعا «لاعادة هيكلة المجلس الأعلى للثقافة بقانون جديد يناسب العمل فى مرحلة ما بعد الثورة ويمنحه استقلالية أكبر والاهتمام بالمؤسسات الثقافية التى تتفاعل مع الجماهير مثل قصور الثقافة لتتخلى عن بعدها عن المجتمع وتقوم بدورها الحقيقى التفاعلى مع الجمهور». ودعا المؤتمر الأخير للمثقفين -الذي أثار جدلا وكشف عن غضب فريق من المثقفين- الى اتاحة الحرية الكاملة للفعل الثقافي بفتح قصور الثقافة ومسارح الهيئة ودور العرض التابعة لوزارة الثقافة أمام النشاط الحكومي والأهلي على السواء ورفع جميع أنواع الوصاية الحكومية أو الأمنية واشراك الفنانين المستقلين في ادارة هذه المسارح ودور العرض. كما أوصى المؤتمر بتشكيل لجنة مستقلة ومحايدة ومتخصصة لإعداد تقرير فني واداري عن مواقع الثقافة الجماهيرية لوضع سياسة تستهدف استعادة دورها في أسرع وقت وبأفضل الطرق، مناديا بالعودة للاسم الأصلي لقصور الثقافة وهو «الثقافة الجماهيرية» واعتبار عام 2014 عاما للثقافة الجماهيرية. وتوالت التوصيات لتتضمن دعوة لتشكيل مجالس أمناء لقصور الثقافة بشكل مستقل عن سيطرة الدولة ودعم ميزانية النشر داخل الهيئة وضرورة العمل الفوري على استرجاع كل أصول السينما المصرية وتمثيل الثقافة المصرية المتنوعة داخل المجلس الأعلى للثقافة ومختلف الادارات الثقافية. وتضمنت مبادرات بعض المجموعات فى الحياة الثقافية المصرية بعد ثورة يناير مطلب تحويل المجلس الأعلى للثقافة الى كيان مستقل بعيدا عن وزارة الثقافة، فيما أعد الفنان التشكيلى عادل السيوي اقتراحا يتمثل فى اشراف المثقفين على هذا المجلس عبر انتخابات حرة وبحيث يتحول إلى "كيان حيوي يمكنه وضع الخطوط الرئيسية للعمل الثقافي في مصر". وفي الآونة الأخيرة- تصاعدت دعوات مثقفين مصريين لإعادة هيكلة وزارة الثقافة بما يخدم طرح مشروع ثقافي نهضوي يتفاعل مع ضرورات الحداثة دون تفريط في الأصالة فيما تتردد هذه الآراء كثيرا فى الصحافة ووسائل الاعلام مع نقاشات حول أولويات المثقفين ورؤاهم لهذه الوزارة. ولا تخلو الدعوات التي يطلقها البعض من حين لآخر لإلغاء وزارة الثقافة ككل من تعلق بمسألة الأسماء والمسميات واللافتات بعيدا عن الجوهر والمضمون، لأن هذه الدعوات تتفق فى نهاية المطاف على قيام جهة أخرى مثل المجلس الأعلى للثقافة بالدور الرسمي لوزارة الثقافة. على أن الأمر فى جوهره يتجاوز بكثير مجرد تغيير في الأسماء والمسميات أو وضع لافتة محل أخرى بقدر ما يتطلب ارادة سياسية واعية بأهمية دور وزارة الثقافة فى المرحلة الراهنة على وجه الخصوص حيث تفرض أسئلة عديدة ذاتها مثل السؤال عن دور هذه الوزارة في صياغة المضمون الثقافي الثوري الواجب لصنع التغيير الثوري الذي يلبي مطالب الشعب المصري في ثورته المجيدة. والمشهد الراهن قد يوحي بالتناقض بين عمق التحولات في المشهد المصري وسطحية التعبير الثقافي عن هذه التحولات في كثير من الأحيان حتى الآن، ثم أن «تبدل الأقنعة» معضلة أخرى تزيد من غوايات الشك واستنطاق الهواجس وتأويلات المصالح! وبعيدا عن أي نزعة بلاغية أو انشائية، فوزارة الثقافة وهيئاتها من المفترض انها تتحمل المسؤولية الكبرى فى ترسيخ ثقافة الثورة الشعبية بموجتيها في يناير-يونيو في كل أوجه ومجالات الحياة المصرية ومواجهة التناقضات في العملية الثورية وصراع الضرورات وتوجيهها لصالح الشعب، الأمر الذي يتطلب سياسات تنطلق من قيم هذه الثورة وكوادر قادرة على تنفيذ هذه السياسات الثورية الثقافية. فكيف يمكن الحفاظ على الدولة المدنية وضمان عدم تهديدها مرة أخرى بفصيل أثبت ويثبت بممارساته على الأرض أنه غير معني أصلا بفكرة الدولة الوطنية ؟! وكيف السبيل لإعادة الاعتبار لفكرة الديمقراطية التي باتت موضع خلط واضطراب شديدين؟! وكذلك كيف يمكن انعتاق منظمات المجتمع المدني من شبهات أمست تحاصرها وقيام هذه المنظمات بدورها المأمول والمطلوب في خدمة الثقافة المصرية، ناهيك عن احترام حقوق الإنسان واعلاء دولة القانون؟! لقد تغير مفهوم القوة بالفعل مع العولمة وثورة المعلومات واقتصاد المعرفة وتتوالى طروحات حول ما يسمى «بالقوة الذكية» كمحصلة للتفاعل بين عناصر القوة الصلبة والقوة الناعمة التي تعد الثقافة قوامها وأساسها وقضها وقضيضها، فماذا نحن فاعلون؟! وبعيدا عن أي شخصنة للقضايا يبدو أن هناك حاجة لتحسين كفاءة وفاعلية الموارد البشرية لوزارة الثقافة وأجهزتها وأذرعها الممتدة من حلايب الى الأسكندرية، ومن المؤكد أن الأمر هنا يتركز في المقام الأول على زيادة جودة أداء البنية المؤسسية الثقافية الرسمية بما يخدم الثقافة المصرية والموارد غير الملموسة للقوة الناعمة المصرية التي يقتضي واجب الوقت والمرحلة الدقيقة تعظيم قدرتها على جذب الخارج. ومسائل مثل تواضع قدرات وضعف مهارات الموارد البشرية للمؤسسة الثقافية الرسمية أو عدم توافر المستوى المنشود من المكاشفة والشفافية أو الاغراق في النزعة الدعائية والشكلانية، لن تخدم الهدف الأسمى المتمثل في دعم السلطة المعنوية للدولة المصرية وتعظيم الرأسمال الرمزي لمصر وكسب قضاياها على مستوى الرأي العام العالمي في زمن الفضاء الالكتروني. ان وزارة الثقافة بأجهزتها وهيئاتها المتعددة طرف رئيس في مفترق طرق لمصر الثائرة والتي يتطلع شعبها، عن حق، لتفعيل دورها في العالم ومكانتها كدولة محورية، ومن ثم فهذه الوزارة مدعوة لتبني رؤية ثورية والنهوض بدورها الوطني المعاصر «في تنفيذ ما يخصها من سياسات القوة الذكية في القرن الحادي والعشرين». وقبل ذلك وبعده فللبنية الثقافية الرسمية دورها الكبير والمستدام- كما يفترض-لدعم التماسك المجتمعي المصري والاسهام في تطوير رأس المال البشري ومواجهة «ثقافة الكراهية المضادة للذات الانسانية المنفتحة والتي تنطوي على الأنا والآخر معا». انها الثقافة التي تتخذ من التكاره والتناقض مع الآخر طريقا لتأكيد الذات نافية المشتركات الانسانية وماضية في تعميق اغترابها عن العصر الذي يزداد تقدم «الآخر» فيه وتتنامى سيطرته عليه محلقا نحو آفاق جديدة على صعيد التجربة الانسانية، فيما تكتفي ثقافة الكراهية بمشاعر الخوف والاغتراب والحرمان متشرنقة بكراهيتها للآخر، فيما تنسحب هذه الكراهية بالتأكيد على الحاضر وتتنازل عن المستقبل مقابل تقديس الماضي! واذا كانت وزارة الثقافة عرضة للوقوع تحت احتلال ممثلي ثقافة الكراهية قبيل انفجار ثورة 30 يونيو الشعبية، فالمطلوب الآن أن تسهم الوزارة بعد الثورة التي أنقذتها من هذا الاحتلال في المشروع الوطني «لمصر المستقلة ذات السيادة والمتقدمة والمتحررة من التخلف والتبعية، بقدر ما هي دولة المواطنة لكل مواطنيها دون تمييز أو تهميش أو اقصاء أو انتقاص». ولا مناص من الاعتراف بأن أي قطر عربي لم ينجح بعد في اجتياز اختبار الحداثة الذي اجتازته مجتمعات غربية وآسيوية كشرط جوهري للتقدم في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، وهذه الحداثة تعني الديمقراطية في المقام الأول وتعني حرية التفكير والتعبير وهي قضية بحاجة الى توافق ثقافي ويمكن ان تخدمها وزارة الثقافة. وبالقدر ذاته، فإن لهذه الوزارة دورها المطلوب في مساندة المثقفين المنتمين للثورة الشعبية المصرية بموجتيها في الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 كطليعة لشعب لا يمكن أن يقبل عودة عقارب الساعة لنظامين مخلوعين ولا يمكن أن يتصالح مع ملامح وخصائص هذين النظامين من فساد واستبداد وانتهاكات جسيمة لحقوق الانسان واستئثار بالمغانم واختلال هيكلي في توزيع الثروة والناتج المحلي واهدار العدالة الاجتماعية وامكانات التطور الديمقراطي. واعتبر احمد الجمال في سياق طرح بجريدة «الأهرام» أن مؤتمر المثقفين الأخير «هو بالقطع خطوة للأمام وجهد مطلوب عليه أن ينتقل بأصحابه والمشاركين فيه وكل من يهمه أمر الوطن وخاصة قوته الناعمة إلى أرض الواقع للتواصل مع المعنيين في قصور الثقافة والنوادي الاجتماعية وجمعيات العمل الأهلي والقائمين على تربية النشء لتأصيل رأي عام مستنير». وهذا الرأي العام المستنير، كما يوضح أحمد الجمال، «يرفض نخاسة المتاجرين بالأديان، كما يرفض دجل اللصوص الذين يريدون العودة من بوابة 30 يونيو الى صدارة المشهد السياسي مرة ثانية بعد أن نهبوا المحروسة ودمروا مقدراتها بحزبهم الوطني ولجنة سياساتهم». ومع ذلك يبدو أن الأمر في العلاقة بين بعض المثقفين ووزارة الثقافة يعكس الى حد كبير الاشكالية التاريخية للعلاقة المتوترة بين «المثقف والسلطة» في العالم العربي وهو ما قد يفسر تلك الأصوات التي تأججت غضبا أثناء المؤتمر الأخير للمثقفين. وهناك رأي آخر يذهب إلى أن المسألة برمتها صراع صاخب على الغنائم وأكبر قدر ممكن من المكاسب في المؤسسة الثقافية الرسمية! ووسط كل هذا الضجيج تتوارى الحقيقة حول الفريضة الثقافية الغائبة، وهي ضرورة وجود سياسات ثقافية تنفذ بجدية وأهمية «فلسفة العمل بوزارة الثقافة وأن تكون خدماتها الثقافية موجهة للشعب في عمومه». ولئن تبارى البعض في اطلاق تصريحات داعية لإلغاء وزارة الثقافة وكأن وجودها هو المشكلة الكبرى، أو ادعى البعض أنها تعبر عن وصاية حكومية على الثقافة، فإن هذا الفريق يتناسى حالات الغيت فيها وزارة الثقافة بالفعل فى بعض الحكومات بمصر لكنها كانت تعود في حكومات جديدة أو تعديلات وزارية بما قد يشير ضمنا الى أنها تمثل حاجة ضرورية رغم أي ملاحظات او انتقادات، والأكثر أهمية أن القضية تتعلق بالجوهر والسياسات بعيدا عن الأسماء والمسميات. ولا ريب أن وزارة الثقافة بمقدورها القيام بدور كبير فى ظل آمال تراود مثقفين مصريين في «تأسيس قاعدة لنهضة ثقافية مقبلة تعيد الفنون والآداب في مصر الى سابق مجدها وتساهم فى إعادة بناء الإنسان المصري وتدعم مكانة مصر ودورها الإقليمي والدولي». نعم حان الوقت لسياسات ثقافية تعبر عن حلم الجماهير الثائرة.. سياسات تصغي لصوت الشعب وتحترم كلمة التاريخ عنا، ولا تبغي سوى وجه الوطن.. وليتحدث كل مثقف بكل الحرية طالما أن مصر هي الغاية بعيدا عن الشخصنة ورطانة المصالح!.. فليتحدث هذا المثقف فمثله لا يليق به الصمت!