دخل البستاني حديقته، كان يعرف ما يجب عمله، فشمر عن ساعديه بسرعة وبدأ العمل، اقتلع الحشائش الضارة وألقاها في آتون النار التي أشعلها لهذا الغرض، ثم جاء دور الأغصان الجافة والأوراق الصفراء فلحقت بها في النار. ثم جاء دور التجويد فقطع الأغصان الشاردة والمتدنية لتورق الأشجار وتثمر من فروعها الأعلى. أمسك بالفأس وشرع في تقليب التربة لتتنفس الأرض. عندما انتهى كانت النار قد أتت على ما ألقاه فيها. علمه أبوه حكمة بسيطة وعظيمة يوم قال ‘لا تحسب النار شرا يا ولدي. لا تربو الأرض بالخير وترقص فوقها خضرة الحياة حتى ترقص ألسنة اللهب وهي تلتهم ما كان بها من شر‘. أعد لنفسه كوبا من الشاي على بقايا اللهب وأخذ يرشفه بلذة وهو يراقب نتيجة عمله برضا كبير. عندما تجاوز بعينيه السياج الخشبي نحو أرض جاره وجده كالعادة لا يحرك ساكنا. يمشي بين الزروع التي كادت تتحول لأحراش من فرط الإهمال، تغولت الحشائش الضارة والنباتات الشيطانية حتى أتت على الأشجار المثمرة ونباتات الزينة تقريبا. جاره رجل طيب لكنه بستاني فاشل تماماً، عرض عليه المساعدة أكثر من مرة فرفض بأدب شديد. كان جاره الرقيق يقف وسط الأرض حائرا. حاول مرة منذ زمن بعيد أن يقتلع الأعشاب الضارة حتى لا تحرم شجيراته من الماء والغذاء، لكنه سأل نفسه: من قال أن هذه النباتات ضارة ومن حكم بأن الأشجار أولى منها بالماء والغذاء؟فلم يقتلعها. ضايقه منظر الأغصان الجافة الخشبية والأوراق الصفراء. هم بقطعها لكنه تردد … ألا تتألم الأشجار لقطعها؟ ما أبشع ألم الأشجار!!! عندما أمسك الفأس ليقلب التربة ورفعه في الهواء قفز لعقله سؤال: هذه التربة نفسها، ألم تتكون من أجساد بشر وحيوان ونبات اختلطت بالغبار البركاني ومسحوق الصخور القديم فصارت ما نسميه اليوم تربة؟ ألا نحترم كرامة الموتى. عند هذه النقطة من التفكير أدرك أنه لن يفعل شيئا أبدا في هذه الحديقة. فقرر أن يترك كل شيء للطبيعة، ألا تنمو أجمل الغابات والجنات بيد الله وحدها؟ لكن خطة البستاني الفيلسوف لم تفلح وتحولت أرضه لأحراش موحشة. كان يمشي في أرضه ويراقب جاره الحازم الحازق في ذلك اليوم محزونا وهو يمسك بيده بعض وريقات شجرة التوت المتقزمة الضعيفة، وهو يهمس: لماذا؟ لماذا لم تقم الطبيعة الطيبة بعملها وتحول أرضي لجنة وارفة بغير سكين ولا نار؟ نفذ صبر شجرة التوت المهزولة العليلة عندما سمعت هذه الكلمات فصرخت فيه: أنت من لم يقم بعمله أيها البستاني العاجز فلا تلم الطبيعة، لو كنتُ في الغابة لكنت الآن مثمرة مورقة أطاول السماء. أتعرف لماذا؟ لأن الطبيعة أحزم منك وأصدق. هذه الحشائش التي انتشرت حولي، لو كنت في الغابة ما احتملت تقلب الفصول وما صمدت جذورها الضحلة أمام ندرة ماء الصيف. وهذه الغصون الجافة والأوراق الصفراء الميتة التي تركتني أحملها فوق كاهلي كأني نعش، لو كنت في الغابة لعصفت بها الرياح في الشتاء وخلصتني منها، ولجمعتها في طرف بعيد حتى تحرقها صاعقة أو تتحلل في التربة، فتعود لي في الحالتين غذاء نافعا بعد أن أزاحتها عني حملا ضارا. هذه الأرض التي تختنق تحتي لو كنت في الغابة لقلبتها الرياح تارة، وأقدام الهوام تارة، حتى تتنفس منها جذوري. يا أحمق، أنت عجزت عن فهم حكمة الطبيعة، أتعرف لماذا؟ لأنك حاولت أن تفلسف البديهيات لتصير أمام نفسك الحنون العطوف الإنسان، وهكذا قتلتني قتلا بطيئا يا رقيق الشعور مرهف الإحساس. وضعت الفكر في موضع الحزم، والرفق في موضع العزم، فأفسدت ميزان الطبيعة وأنت تدعي الحرص عليه. ألا فاعلم يا مكتوف اليد سقيم الوجدان: شدة اليد التي تمسك الفأس رحمة، ولهب النار التي تحرق الأذى رحمة، وحدة السكين التي تقطع الغصن المعوج المتدني رحمة. الطبيعة سيمفونية حياة. حكمة الله فلسفة حياة. وبوار رأيك فلسفة موت