القضية بالغة الحساسية، لكنها لا تحتمل التأجيل أو التغاضي . ثمة دماء سالت على أرض ميدان التحرير فجر يوم السبت 9 إبريل 2011 .وسبقتها هتافات ترددت ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة للجمعة الثانية على التوالي . وإن كانت هذه المرة لقت استجابة أكبر وبظهور ومشاركة نفر محدود من الضباط تتراوح رتبهم بين الملازم أول والنقيب. كان يجب أن يدرك المجلس العسكري حجم الغضب ودواعيه ، وألا يترك الأمور تتفاقم إلى هذا الحد. وبقدر ما رحب الرأي العام بخطوات من قبيل الشروع في التحقيق مع ” مبارك ” وحبس رجله المقرب السيد “زكريا عزمي ” احتياطيا . لكنه تعجب على التأخر لما بعد نحو شهرين من تولى المجلس العسكري إدارة البلاد و اتخاذ هذه القرارات قبل سويعات فقط من “جمعة المحاكمة والتطهير”. لا أحد يرغب في مواجهة مع المجلس العسكري و الجيش. ولقد كان ثوار 25 يناير يستلهمون عمق الحضارة المصرية و يستعيدون التاريخ الوطني لجيشهم عندما أغرقوا القوات المسلحة في بحر من الأخوة والحب مع الساعات الأولى لنزولها إلى الشارع . أحاطوا بالدبابات و اعتلوها . استأنسوا فولاذها. ناموا بين جنازيرها. و كتبوا عليها شعاراتهم المطالبة بسقوط ” مبارك ” ونظامه. وكنت أحد شهود هذه الملحمة الرائعة في ميدان التحرير منذ ليلة 28 يناير 2011. وقد اتخذت شعار ” الجيش والشعب يد واحدة ” . لم تفلح محاولات الوقيعة بين جيش الشعب وشعب الجيش. وإن ظل هناك ما يخدش بهاء الصورة . كالتساؤل حول المحاكمات العسكرية لمدنيين ثوار بدعوى “البلطجة” و إساءة معاملتهم على أيدي أجهزة يقال أنها تابعة للجيش . ولقد التقيت شخصيا بعائلات محكومين عسكريا لا يمكن لأي عاقل تصديق أنهم ” بلطجية”. وكان هذا الأمر ومازال في حاجة إلى تحقيق وتوضيح وتصحيح ،واعتذار إن لزم .تماما كما اعتذر المجلس العسكري في واقعة اقتحام ميدان التحرير فجر 26 فبراير 2011 . وهو ما كان محل تقدير و استحسان . لكن المؤسف أن الاعتذار تبعه اقتحام آخر لا يقل خطورة للميدان يوم 9 مارس 2011 . ثم اقتحام كلية إعلام القاهرة 23 مارس وفض اعتصام مصانع “غزل شبين” نهاية الأسبوع الماضي ، ومن دون اعتذار هذه المرة أو تلك. ما حدث مؤخرا في ميدان التحرير ليس مقطوع الصلة بما كان . لكنه على جانب أعظم من الخطورة . وبداية لم يكن مريحا مطلقا أن يأتي ضباط يرتدون ملابس القوات المسلحة إلى الميدان ويشاركون في عمل سياسي على هذا النحو وأن يضعوا أنفسهم في مواجهة قيادتهم . لأن هذا يحمل معه شوائبا غير مرغوبة إلى عمل ثوري مدني انطلق في 25 يناير و سيظل مدنيا ، ويتعين أن يظل هكذا . ولأن هؤلاء الضباط إخوة وأبناء يعرضون أنفسهم لمخاطر المحاكمات العسكرية والأحكام القاسية . وللأسف لم أتمكن من الحوار مع أي من هؤلاء الضباط المعتصمين بكعكة الميدان الحجرية، وقد أحاط بهم الآلاف توفيرا للحماية . لكنني مما استمعت إليه من شهود عدول تحدثوا إليهم خرجت بأن هؤلاء الضباط أقرب إلى مغامرين حسني النية قليلي الخبرة دفعتهم إلى ميدان التحرير في خطوة غير محسوبة موجة شعبية من الإحباط إزاء إيقاع تلبية المطالب الجماهيرية والقلق على مصير الثورة . وبقدر ما يتعين على ثوار في الميدان نقد تعاملهم مع ظاهرة هؤلاء الضباط ، خاصة وأن البعض توهم فيهم بالخطأ ” بؤرة ثورية من العسكر والمدنيين ” من شأنها الضغط لتحقيق المطالب الديمقراطية المشروعة. وبذات القدر يجب على المجلس العسكري مراجعة أدائه تجاه ما جرى .فمن غير المتصور العودة إلى خطاب ما قبل 25 يناير ، وإنكار أنهم ” ضباط تابعون للقوات المسلحة ” و إصدار ذات البيانات الإعلامية المتنكرة للحقيقة والواقع على لسان ” مصدر أمني ” . لا أعرف بالضبط حقيقة ما جرى ويجرى في ميدان التحرير مع فض هذا الاعتصام المدني / العسكري وبعده . لكنني استمعت إلى أنباء تدعو للقلق . و لاشك أن أياد عابثة كثيرة تترصد . لكن لتتغلب الحكمة عند الثوار والمجلس العسكري الحاكم للبلاد كليهما. و الأخير مطالب بمراجعة سياساته ومنهجه في التعامل مع المطالب الثورية الديمقراطية المشروعة و بالرحمة والرأفة مع أبناء الجيش والشعب حتى ولو كانوا ” مغامرين حسني النية ” . وقبل هذا وذاك ، علينا التفكير في وجاهة تشكيل مجلس رئاسي غالبية أعضائه من المدنيين المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة و الخبرة السياسية ، بما في ذلك قضاة محل ثقة الرأي العام . فالقوات المسلحة وهي محل تقدير من شعبها بثواره و مثقفيه باتت مثقلة بأعباء جسام وتعمل في بيئة سياسية معقدة ربما تفتقد إلى خبرة و أدوات التعامل معها . وقد آن الأوان لمجلسها الأعلى أن يتخفف من أعباء حكم وسياسة و يتفرغ لدور الحامي و الداعم لعملية التحول الثوري والديمقراطي. ما حدث فجر التاسع من إبريل 2011 يسئ إلى مصر وجيش شعبها العظيم الذي لم ولن يكون أبدا شبيها بجيوش عربية تورطت في قمع ثورات شعوبها. وعلينا جميعا الانتباه ، و نزع فتيل مفاجآت قادمة ،سواء أكانت مدبرة ومشبوهة أو عفوية وبريئة. سلمته إلى ” الأهرام ” عصر يوم 9 إبريل 2011