منذ ثورة 30 حزيران/ يونيو في مصر أشاعت التصرفات الأميركية والخليجية حالة من البلبلة في فهم الأحداث، ويرى بعض الوطنيين والمخلصين في ذلك شبهات حول طبيعة الثورة ومآلها، ويذهب البعض أحيانا إلى الكلام عن انقلاب أميركي على الإخوان وحكمهم. أولاً: ان الأحداث المستمرة في مصر منذ كانون الثاني/ يناير 2011 حتى اليوم والى إشعار آخر هي نتيجة لمحرك رئيسي وحاسم، هو الحركة الشعبية المصرية التي تعبر عن انفجار النقمة والغضب في مجابهة حالة غير مسبوقة من التأزم الاقتصادي الاجتماعي والتعفن السياسي، وقد عبر الناس في تحركاتهم المليونية عن طبيعة تطلعاتهم فهم يريدون وبكل حزم تحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة إنهاض الاقتصاد المصري والظفر بالحريات العامة والخاصة في مجتمع مستقر، كما أعرب المصريون عن تطلعهم في كل ذلك إلى تحرير بلدهم من الهيمنة الغربية ومن الخضوع المذل للاملاءات الاستعمارية الغربية والإسرائيلية التي حولت مصر إلى حارس لأمن الاحتلال الصهيوني وسلبتها دورها التاريخي الريادي كدولة عربية كبرى وكقوة فاعلة ومؤثرة على المسرح الإقليمي والدولي، لأن هذا الانفجار الشعبي كان أصيلا فان ديناميكية الشارع المصري حكمت منذ البداية بسلسلة من التغييرات المتدحرجة لصيغ الحكم السياسي التي قامت في مراحل انتقالية متلاحقة وأحرقت كثيرا من الأوراق واللاعبين. ثانياً: ان اليد الأميركية موجودة في مصر وفي أكثر من موقع فثمة رموز في المعارضة التي هبت ضد حكم الاخوان وثيقة الارتباط بالدوائر الغربية وثمة مواقع في المؤسسة العسكرية المصرية مرتبطة تقليديا بالغرب وبالولاياتالمتحدة وكذلك فان قيادة تنظيم الإخوان برهنت بما لا يقبل الجدل على طبيعة ارتباطها العضوي بالمشروع الأميركي لتجديد الهيمنة الاستعمارية ولتثبيت وصاية إسرائيل على أمن مصر ودورها الإقليمي وتسعى الولاياتالمتحدة عبر هذه الخيوط مجتمعة منذ الهبة الشعبية الكبرى التي فاجأتها عام 2011 وأربكت حسابات إلى الاحتفاظ بمواقع تأثير في واقع سياسي متحول عصي على السيطرة بفعل العامل الشعبي الثوري الذي أشرنا إليه أعلاه فعندما تخرج الملايين إلى الساحات وتغلي بالغضب الذي تعبر عنه شعارات جذرية واضحة وطنيا واجتماعيا وسياسيا تفقد أجهزة الاستخبارات وغرف التخطيط السياسي القدرة على السيطرة ويصبح اللحاق بالشارع هو القاعدة الحاكمة لموقف وحركة أي جهة تريد الاحتفاظ بدور سياسي. ثالثاً: فاجأت ثورة يونيو المخططين الأميركيين كما فاجأتهم ثورة يناير والمفاجأة الأكبر للإدارة الأميركية كانت في الانحياز السريع لقيادة الجيش إلى الحركة الشعبية في مجابهة حكم الإخوان الذي دعمه الأميركيون حتى الأمس القريب، وهم يبحثون اليوم في جولاتهم المكوكية إلى القاهرة عن مخارج لحفظ ماء وجه قادة الإخوان الذين لفظهم الشعب المصري وفشلوا في الحفاظ على حكم خسروه في سنة وانتظروه ثمانين عاما ومن الواضح تماما ان الولاياتالمتحدة مصممة على مواصلة استعمال الاخوان وتجنيدهم في خططها، أما حركة قادة الجيش المنحازة إلى الشعب فقد اصطدمت بالموقف الأميركي في مناخ إقليمي ودولي يوفر لها البدائل ويحميها من الضغوط الأميركية المستمرة وجذرية موقفها نابعة من حقيقة تكوين الجيش المصري من نسيج الشعب والمجتمع ومن وجود ضباط وطنيين في قاعدة هذا الجيش يعكسون تطلعاتهم وثقافتهم في خيارات القيادة العليا. رابعاً: كما رفضنا وصف ثورة يناير بالمؤامرة الأميركية انطلاقا من حقيقتها الشعبية الناصعة الناتجة عن أسباب موضوعية، فان ثورة يونيو هي أيضا حركة شعبية ثورية تلاقت فيها الجماهير الثائرة مع أبنائها بالبزات العسكرية ودشنت مسارا جديدا بعد افتضاح حقيقة حكم الاخوان بوصفه نظاما لتجديد الهيمنة الاستعمارية على مصر ولإدامة أزمتها الاقتصادية والاجتماعية وصيغة لإنتاج استبداد جديد رفضه الناس الذين تمسكوا وبحزم بإقامة نظام ديمقراطي حر يحقق أوسع تداول ممكن للسلطة والذين حركتهم مشاعر الكرامة الوطنية والاستقلال عن الهيمنة في وجه حكم مرسي الذي أدارته السفارة الأميركية في القاهرة خلال سنة كاملة وقدمت له الحماية بلا حدود حتى اللحظة الأخيرة، وما تزال الخيوط الأميركية تتحرك على خط التسويات لتحفظ دورا للإخوان المسلمين في مستقبل مصر حتى يكونوا موقع نفوذ للغرب ولأميركا في المعادلات الجديدة. أيا كانت الصيغة التي سوف ترسو عليها التوازنات المصرية سيبقى العامل الشعبي الثوري هو العنصر الحاسم والمحفز للتحولات وستثبت الأحداث ان الأفق المصري قد فتح أمام صيرورة تجذر في قلب المؤسسة العسكرية يصح معه الحديث عن احتمال انبثاق ناصرية جديدة سواء كان من سيعبر عنها هو الفريق السيسي نفسه أم سواه فهذه خاصية مصرية تقررها الأحداث والتطورات بفعل أصالة الظرف الثوري وراديكالية الشارع الذي سيعبر عن نفسه بأطر وبرموز سياسية تقترب من طموحاته وقد يستغرق ذلك وقتا غير قليل.