الأحداث المتلاحقة التي أفضت إليها انتفاضة الشعب المصري تفتح الأبواب على زلزال كبير في المنطقة وكما دشنت انتفاضة يناير 2011 مسار ما سمي بالربيع العربي فان انتفاضة 30 يونيو/ حزيران تشكل مقدمة لتطورات كبرى في مصر وفي المنطقة العربية بصورة عامة ويشكل فهم هذه الانتفاضة و العبرة التي تحملها مدخلاً لابد منه قبل دراسة النتائج و الانعكاسات الناشئة عنها. أولاً: إن انكشاف حقيقة مشروع تنظيم الأخوان المسلمين أمام الشعب المصري أدى إلى انتفاضة غير مسبوقة من حيث مداها وحجمها وجذريتها تجسدت بخروج عشرات الملايين دفعة واحدة إلى الساحات والميادين المصرية في مشهد يصح اعتباره أمراً نادراً في تاريخ الشعوب وهو ما يؤكد أن حكم الإخوان الاستبدادي القائم على الاستئثار بالسلطة والمبني على إعادة إنتاج نظام خاضع للهيمنة الاستعمارية ولإسرائيل بكل مظالمه السياسية والاجتماعية، هذا الحكم ولد ثورة عارمة استقطبت إليها غالبية عظمى في المجتمع المصري ضمت جميع التلاوين الطبقية والسياسية وأفضت خلال يومين إلى عزل الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي وشقت الطريق إلى آلية انتقال سياسية ودستورية جديدة فرضتها انتفاضة الشعب وتجاوبت معها قيادة الجيش المصري التي تعبر واقعيا عن قوة أساسية ومحركة في الواقع المصري هي بيروقراطية الدولة العميقة المدنية والعسكرية التي والفت مع رئاسة مرسي بعد الانتخابات وسعت إلى شراكة حقيقية مع الأخوان في إدارة الدولة المصرية واصطدمت بحقيقة هذا الحكم المفلس والعاجز عن الاستمرار والذي سعى إلى عزلها وتهميشها مع سائر المكونات السياسية والاجتماعية في البلاد. ثانياً: من الواضح أن صراعاً سياسياً قد انطلق بين تنظيم الإخوان وسائر فئات المجتمع المصري وفي مناخ التصادم الذي تسلكه قيادات تنظيم الأخوان منذ رفضها للتسويات التي عرضتها قيادة الجيش مما ينذر بنشوء حالات إرهابية منبثقة من قلب التنظيم ستكون في مجابهة مع المؤسسة الأمنية والعسكرية المصرية تحت شعار النزاع على الشرعية وهذا العنف الذي لوحت به خطب ميدان رابعة العدوية هو عنف معزول في ظل المناخ الشعبي العارم الذي تسببت به رئاسة مرسي خلال سنة من تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ومن تجديد سياسات مبارك ونهجه على نحو موسع لجهة الارتباط بالهيمنة الأميركية والغربية وتقزيم دور مصر الإقليمي والعربي عبر حبسه في علبة قطرية وفي دور وظيفي تبدى خلال حرب غزة الأخيرة في حراسة الأمن الإسرائيلي وأخذ قيادة حماس السياسية بعيدا عن محور المقاومة في المنطقة ومن الواضح أن قيادة الجيش والبيروقراطية المدنية والعسكرية كفئة رئيسية في المجتمع المصري كانت هي القوة الأكثر تنظيما والأقدر على ملاقاة الاستقطاب النوعي في المجتمع لتأمين الانتقال إلى مرحلة جديدة تضع حدا للأزمة ولتداعياتها الخطيرة خصوصا عندما لاحت في الأفق أجواء صدامات أهلية أوقعت قتلى وجرحى في العديد من المدن والمناطق نتيجة أسلوب قيادة الأخوان في التعامل مع الأوضاع بالعنف والإرهاب بدلا من مراجعة الحسابات. ثالثاً: راهنت قيادة الأخوان على الحماية الأميركية الإسرائيلية حتى اللحظة الأخيرة و لم تعتبر من حقيقة كون الولاياتالمتحدة والغرب وإسرائيل تخلوا عن حليفهم حسني مبارك وعقدوا صفقة معها بعد انتفاضة يناير رغم شراكة عشرات الأعوام مع نظام مبارك الذي قدم خدمات كبرى لقوى الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة ودون اعتبار لحقيقة أن مرحلة الانحسار التي يشهدها النفوذ الأميركي في العالم وليس في الشرق وحده لم تعد تسمح بتكرار الحملات العسكرية التي كان آخرها احتلال ليبيا تحت غطاء ما يسمى بالربيع ولفرض هيمنة الأخوان على الحكم في عدة بلاد عربية وبعد الفشل الذريع للحرب الاستعمارية العدوانية على الدولة الوطنية السورية وعلى محور المقاومة . ضرب زعماء الأخوان عرض الحائط بنصائح تلقوها من قيادات إيرانية وروسية ومن قيادة حزب الله بعد صعودهم إلى السلطة بل توغلوا في خدمة المخطط الاستعماري من خلال موقفهم من الوضع السوري مما أطلق صيحات في الشارع المصري عن وجاهة إغلاق السفارة السورية وإبقاء سفارة إسرائيل في القاهرة بصورة تخالف نظريات الأمن القومي التي صاغتها المؤسسة العسكرية والأمنية المصرية وأقامت عليها تقديرا للموقف قبل اندلاع انتفاضة 30 حزيران يونيو كشف عنه الفريق السيسي الذي قال انه تضمن عرضا للمخاطر الداخلية والخارجية التي تهدد المصالح المصرية العليا وقد كشفت بعض التقارير الإعلامية إن ذلك التقدير توج باقتراح حكومة وحدة وطنية وتفاهمات مع المعارضة رفضها الرئيس محمد مرسي وليس تعسفيا ربط الهبة الجماهيرية بالموقف من سوريا فقد كان معبرا للغاية اختفاء علم الانتداب الذي ترفعه المعارضات السورية من ميادين الانتفاضة الشعبية المصرية بينما ظل موجودا في ميدان الأخوان برابعة العدوية. رابعا: ما أسقطه الشعب المصري في هبته العظيمة هو نهج الارتهان للغرب المستعمر سياسيا واقتصاديا ونهج إدامة الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة والعمل في خدمتها وهو نهج تكريس علاقات الاستغلال الطبقي والاعتماد على المعونات والقروض وأجندة شروطها السياسية على حساب السيادة الوطنية ومصالح عموم الشعب المصري بكل طبقاته وهو نهج احتكار السلطة في مجتمع متعدد وكذلك هو نهج إثارة الفتن الطائفية والمذهبية التي شهدت بها أحداث دموية ضد الأقباط وضد الشيعة في مصر كانت غريبة عن تقاليد المجتمع المصري وعن تاريخه. كل ما تقدم لا يحجب حقيقة أن المخاض السياسي للتغيير في مصر مستمر ومفتوح ومرة أخرى تظهر ديناميكية الشعب والقوى الفتية في المجتمع سابقة لجميع التشكيلات والأطر السياسية التقليدية بما فيها المعارضة التي فاجأتها الانتفاضة وكما أنتجت انتفاضة يناير 2011 جماعات شابة جديدة تقدمت الصفوف فإن حركة تمرد التي تعاظم حجمها ونفوذها بصورة مذهلة في أشهر قليلة تؤكد أن قانون التغيير المتدحرج وانبثاق نخب ثورية جديدة هو ما يحكم الواقع المصري الذي سيشهد مزيدا من الفك والتركيب في الحياة السياسية حتى تستقر سلطة جديدة تناسب طموحات المصريين وتطلعاتهم السياسية والاجتماعية والوطنية بكسر جميع قيود الهيمنة الاستعمارية والنفوذ الإسرائيلي وبعودة مصر إلى دورها القومي الطليعي وريادتها الإفريقية والإسلامية كما وصفها جمال عبد الناصر قبل ستين عاماً.