"أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة والكتب القديمة أنعي لكم كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة ومفردات العهر والهجاء والشتيمة أنعي لكم.. أنعي لكم نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة هكذا بدأ الشاعر الكبير نزار قباني قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"، وهي التي عبر فيها عن المرارة والطعنة المؤلمة التي أحدثتها هزيمة يونيو في نفوس العرب، وخاصة من صدقوا الحلم وهللوا للشعارات، وبعد كتابتها تحول نزار من شاعر الحب والرومانسية إلى شاعر يكتب بالسكين، وهذا ما فعلته النكسة في الكثير من المبدعين الذين تخلوا عن الشعارات الناصرية التي أدت بهم إلى الهزيمة، وبدأوا يؤسسون لأدب عربي جديد كان من أبرز سماته "الانكسار والسوداوية" كما أكد لنا عدد من الكتاب والمثقفين. يرى القاص والروائي د. "أحمد الخميسي" أن الشعور بمرارة نكسة يونيو 1967 أدى إلى الترسيخ لثقافة الهزيمة والانكسار، ومن ثم هزيمة ثقافة التحرر الوطني ومعاداة الاستعمار، وهو الأمر الذي ترك أثرا عميقا في مجري الكتابة المصرية. ويوضح الخميسي أن تأثير نكسة 1967 على الحياة الأدبية المصرية لم يظهر - بكل أبعاده - إلا متأخرا، ذلك لأن اختمار نتائج النكسة في المجالين الروحي والنفسي - وهما مادة الإبداع الأدبي - قد استلزم وقتا طويلا لتصبح الهواجس والشكوك والأسئلة شيئا من صميم الروح المصرية، وفي نفس الوقت يري الخميسي أن آثار النكسة قد ظهرت بسرعة في المجال السياسي والثقافي بمعناه العام، وتمثل ذلك في تأكيد توفيق الحكيم في عودة الوعي على فكرة أنه لا مفر من القبول بشروط العدو ولا مفر من التصالح معه، وهذه الفكرة لم يعلنها الحكيم صراحة لكنها وجدت من أعلنها على الملأ مثل د. إبراهيم عبده في كتابه "تاريخ بلا وثائق". ويضيف الخميسي أنه بعد النكسة تحولت كل قيم التحرر الوطني ومعاداة الاستعمار والعدالة الاجتماعية إلى قيم أخرى، حيث أصبح التطبيع والخيانة وجهتي نظر، وقد تمثل ذلك في ظهور تيار يرسخ للتطبيع مع إسرائيل تولى زعامته الأدبية علي سالم في كتابه "زيارة لإسرائيل"، وعبد الله الطوخي في رواية "فجر الزمن القادم"، كما ظهرت روايات تمجد إسرائيل مثل "طلعة البدن" لمسعد أبو فجر، ومثقفون يؤيدون التطبيع مع العدو الصهيوني مثل جورج بهجوري، وفاطمة ناعوت. أما الكاتب والمترجم "رفعت سلام" فيرى أن النكسة قد تركت تأثيرات إيجابية في المشهد الأدبي المصري، ويوضح قائلا: "النكسة أثرت تأثيرات إيجابية لأنها فتحت عيون المبدعين على أن يكونوا عينا نقدية للمجتمع، وأن يكون هذا الدور النقدي هو الدور الأساسي لأنهم اكتشفوا أن كل ما كانوا يهللون له من إنجازات في المرحلة السابقة لم يسفر إلا عن تلك النكسة القاتمة، وبالتالي أعادوا النظر في دورهم في المجتمع". ويشير سلام إلى أن النكسة قد تركت حالة من التشكك في كل شيء، فلم يعد أحد يصدق تلك الوعود الجديدة التي يسوقها النظام، وأصبحوا يطالبون بتغيير أقرب إلى الجذري كرد فعل لهذه النكسة وليس مجرد ترميم النظام، ويتابع: "حالة التشكك أدت إلى ظهور حالة العدمية والسوداوية والعبثية كسمة من سمات أدب ما بعد النكسة، ولكن بشكل عام نستطيع أن نقول إن هزيمة يونيو أدت إلى تفجر الكثير من الطاقات الإبداعية واستطاعت أن تبرز الوظيفة الاجتماعية للأدب وباتت النصوص الأدبية سلاحا في المعركة ضد العدو الصهيوني". ويوضّح الكاتب والروائي "صبحي موسي" أن هزيمة يونيو كانت بمثابة القنبلة التي نسفت الحلم القومي العربي كما نسفت معها أحلام الجماعة الثقافية التي كانت تروِّج للمشروع القومي في أعمالها الإبداعية، ومن هنا تولَّد اليأس والانكسار، وهو ما ظهر بوضوح في أدب ما بعد النكسة، حيث ظهرت كتابة مغايرة عن الكتابة السابقة، ويواصل: "الانكسار والهزيمة جعل الأدباء يكتبون في حيز ضيق ليس فيه إحساس بما يحدث في العالم، كما أدت أيضا إلى ظهور النفوس المشوهة والكثير من أمراض الثقافة المصرية، مثل ارتباط كبار الكتاب بالسلطة، والبعد عن الفكر اليساري، وظهور مصطلح الحظيرة الثقافية التي كانت تقوم على تدجين المثقفين مقابل المال والمناصب". ويضيف موسى: "إن الآثار السلبية للنكسة لا يزال تأثيرها موجود على جيل الستينيات والسبعينيات حتى الآن، ومن بين هذه الآثار الخوف الذي تسرب إلى النفوس والذي أدى إلى الاهتزاز النفسي لهؤلاء المثقفين الذين لم يتخلصوا حتى الآن من تاريخ التآمر السياسي، على عكس جيل التسعينيات الذي لا يحمل في نفسه أي تخوفات أو هواجس قد تحد من حريته وانطلاقه". د. أحمد الخميسي: نكسة يونيو أدت إلى هزيمة ثقافة التحرر الوطني صبحي موسى: النكسة أدت إلى ظهور أمراض الثقافة المصرية