ثانيا قانون التفكيرالطبيعي: للتفكير قانون طبيعي تكويني يهتدي إليه الإنسان عند التأمل بفطرته، ولا يغيب هذا القانون إلا بسبب موروثات ثقافية وتربوية خاطئة أوأنس الإنسان الشديد بالمحسوسات، أو ميله الغريزي إلى التحرر من أي قيد، أوالتمرد على القانون، فلا يهتم بمراعاة القوانين الفكرية لأنه يريد أن يحلق بخياله ووهمه الشخصي وأنسه العرفي فيسقط في مستنقع الانحراف والضلال الفكري. وهذا كما لو أنه لم يراع القوانين الفيزيائية فيروم التحليق في الفضاء فيقذف نفسه من مرتفع شاهق فالنتيجة تكون معلومة سلفا. فللتفكير قواعد وقوانين طبيعية، ولم يكن دور المعلم الأول أرسطو إلا اكتشاف هذه القواعد من طبيعة التفكير الإنساني وفسيولوجية عمل العقل كما سنبين ذلك في البحث عن آلية التفكير المنطقي، فمثله كمثل الطبيب الذي اكتشف فسيولوجية عمل الدماغ أو المخ بالتحليل العلمي الدقيق والمشاهدات القطعية، فليس لنا بعد ذلك أن نقول إن هذه هي وجهة نظره التي يريد أن يفرضها علينا. وللأسف نرى أن بعض المفكرين الغربيين ومن تابعهم من المثقفين الشرقيين قد توهموا أن هذه القواعد والأصول المنطقية قد تقادمت،وبطل مفعولها العلمي وأنها تمثل وجهة نظر أرسطو الخاصة به في طريقة التفكير وأنهم غير ملزمين بها، فلكل مفكر طريقته الخاصة في التفكير دون أي قيود تفرض من الغير وهذا وهم كبير والذي يدل على توهمهم هذا ،أنهم حين يستدلون على صحة كلامهم أو ينتقدون المنطق الأرسطي،تراهم يعتمدون نفس الآليات المتبعة في صناعة المنطق والتي أشار إليها أرسطو، فهم ينتقدون المنطق بنفس المنطق دون شعور منهم. وهؤلاء في الحقيقة إما أن لا يكون لديهم إطلاع على المنطق الأرسطي كما هو الغالب الملحوظ من تحليلاتهم وانتقاداتهم العجيبة، وإما أن يكونوا من العبثيين الذين يريدون الفرار من الرقابة العقلية أوالتمرد والخروج على القانون بحيث لا يحاسبهم أحد على ما يقولون. فينبغي الالتزام بالقانون التفكيري ومحاكمة أفكارنا على طبقه، وإلا فمع فقدان ميزان الفكر وقانون التفكير ،فلامعنى للبحث العلمي أو الحوار الفكري أصلا. وليست هذه دعوة للتقليد الأعمى بل الباب مازال مفتوحا أمام المزيد من التحقيق والتطوير في هذه القواعد المنطقية العريقة والدقيقة بشرط أن نسلك الطريق العلمي الموضوعي. ثالثا تحليل آلية التفكير المنطقي: حتى تحصل عملية التفكير لابد من تحقق عنصرين، الأول: بمثابة المقتضي [1]للحركة التفكيرية وهو جهل يعيه المفكر، والثاني: بمثابة الشرط للحركة التفكيرية وهي معلومات مسبقة. أما العنصر الأول: فان الإنسان لا يتحرك ذهنه ما لم يعلم أن لديه جهل إما بإدراك وفهم معنى ما، ويسمى بالجهل التصوري؛ لأنه عدم تصور لذلك الشيء، أو جهل بصحة أو كذب خبر ما، ويسمى جهلا تصديقيا، لأنه عدم الحكم بصحة أو كذب الخبر، وهذه حالة الشك التي يمكن أن يمر بها الإنسان. أما إذا لم يعلم بجهله، فلا يكون هناك مقتض للحركة التفكيرية، لأنه لا يعلم أنه لا يعلم ؛ وهذا ما يسمى بالجهل المركب. أما العنصر الثاني: فإن الذهن بعد علمه بالجهل لا يتحرك ما لم تتوفر لديه معلومات مسبقة مناسبة لذلك المجهول، فإن كان المجهول تصوريا فلابد من توفر معلومات تصورية كي يؤلف منها معلوما تصوريا كاسبا للمجهول التصوري، ويطلق عليه (المُعرف)، وإن كان المجهول تصديقيا فلابد من توفر معلومات تصديقية كي يؤلف منها معلوما تصديقيا كاسبا للمجهول التصديقي، وهو المسمى ب (بالدليل). وهذه الحركة التفكيرية لاكتساب المجهول التصورى أو التصديقى كأي حركة صناعية مؤلفة من حركتين، حركة أولى لتجميع المعلومات الملائمة للمطلوب، والتى هي بمثابة المواد الخام الأولية للصناعة، وحركة ثانية لترتيب هذه المعلومات على الصورة والهيئة الصحيحة المناسبة للمطلوب وبهذا يتضح أن التفكير عبارة عن حركة تجميع وترتيب معلومات تصورية لتحصيل معلوم تصوري كاسب للمجهول التصوري أو معلومات تصديقية لتحصيل معلوم تصديقي كاسب للمجهول التصديقي. و هذا التجميع والترتيب الذهني تنتج عنه الصورة او الهيئة التاليفية للمواد سواء كانت صورة او هيئة تاليفية في التصورات والتي هي المعرف او كاسب التصور اذ التعريف له صور عدة من حد تام وناقص ورسم تام وناقص. او تنتج عنه صورة او هيئة تاليفية للمواد في التصديقات والتي هي الدليل على ما تقدمت الاشارة اليه اذ الدليل كما في بحث القياس اما ان يكون قياسا على هيئة الشكل الاول او على هيئة الشكل الثاني او الثالث او الرابع ،او يكون استقراءا او تمثيلا. وهذه الصور المؤلفة انما هي نقش على عرش وهي المواد والمعلومات التصورية اوالقضايا والمعلومات التصديقية المرتكزة عندنا،وعندها يمكن ان يقال ان الخطأ اما ان يقع في مرحلة الترتيب الصوري وتاليف الهيئات او يقع في مرحلة المواد والمعلومات المسبقة المرتكزة عندنا كما هو عليه الحال في الحرف و الصناعات الخارجية فالمنزل المقام قد يكون فيه خطأ من جهة الماد المستعملة فيه كردائة المواد المشيد منها او من جهة الصورة والهيئة التي انشئ عليها. وكما أن الخطأ في الصناعة قد يقع من جهة المادة(كالمواد الرديئة)أو من جهة الصورة(كالصورة المشوهة أوالمعوجة) كذلك يقع الخطأ في التفكير من جهة طبيعةالمادة المعلوماتية أو من جهة الصورة التأليفية لهذه المعلومات ومن أجل ذلك فقد مست الحاجة إلى تدوين علم يشتمل على القوانين الكلية المتعلقة ببيان كيفية تجميع وانتخاب المعلومات المناسبة للمطلوب الممثلة للمادة الاساس لبناء ما يناسب المطلوب ،ولنسميه بالمنطق المادي، وعلم يشتمل على بيان القوانين الكلية لترتيب المعلومات على الصورة الصحيحة والهيئة التاليفية الخادمة للوصول الى المطلوب ، ويسمى بالمنطق الصورى فالمنطق علم يتعلم فيه كيفية اكتساب المجهول التصوري والتصديقي مادة وصورة بنحو صحيح وبطبيعة الحال فإن أي حركة قد تخرج عن مسارها الطبيعي إذا لم تحكم بقانون معين، فحركة القمر مثلا حول الأرض في مسار محدد بحكم قانون فيزيائي، وفي حال انعدامه أو تغيره سوف تخرج هذه الحركة عن مسارها وتصبح حركة عشوائية قد تحدث كوارث كونية هائلة، كذلك الحركة التفكيرية لتحصيل العلوم التصورية أو التصديقية، لابد أن تحكم بقانون لئلا تخرج عن مسارها الذي ينبغي أن يكون موصلا للنتائج العلمية المطلوبة وبدونها سوف ننتهي إلى مفاسد فكرية وعلمية وسلوكية كبيرة، علما ان وقوع الخطأ في التفكير الانساني لا ينكره عاقل مستوي الفكر و له شواهد وادلة عدة لاتخفى على متامل واوضح الشواهد ان ثمة اعتقادات متناقضة يعتقدها الناس في مسألة واحدة وهي على حدي نقيض بين السلب والايجاب والوجود والعدم ،والحال لا يمكن الاعتقاد والتصديق بجميعها اذ ببداهة التفكير ان النقيضين لا يجتمعان والمطلب طويل الذيل ليس المحل لبسطه. ثم إن هناك باب كبير في المنطق نتعلم فيه كيفية الاستدلال الصوري بأنحاءه الثلاثة،القياس والاستقراء والتمثيل، وقد تبين هناك أن صورة الدليل القياسي مولدة بالضرورة للنتيجة بشرط مراعاة الشرائط العامة والخاص هناك،فعلى سبيل المثال،إذا قلنا اب وكل ب ج فقطعا تكون النتيجة هى اج أما صورة الاستدلال الاستقرائي والتمثيلي فلايفيدان إلا الظن دون اليقين أما المنطق المادي،وهو القسم الأهم في صناعة المنطق الأرسطي ، فيتبين فيه مناهج وأنماط متعددة في التفكير يعبر عنها بالصناعات الخمس التى تمثل أنحاء الاستدلالات المختلفة بلحاظ مواد القضايا المستعملة فيها ،مع اشتراكها جميعا في صورة القياس ،فكل صناعة من هذه الصناعات انما هي قياس في صورتها الا ان هذه الصورة من القياس قد تسمى برهانا وقد تسمى مغالطة او خطابة وهكذا تبعا لنوع المادة والقضايا المستعملة في صورة القياس المفيدة للغاية المطلوبة المرادة للقائس . فمثلا صناعة البرهان تستعمل فيها القضايا البينة الصادقة البديهية التي لا تحتاج في نفسها ان يستدل عليها بل صدقها ذاتي منها كقولنا الكل اعظم من الجزء او النقيضان لا يجتمعان،أو لكل حادث سبب؛اذ الغاية من القياس تحصيل الحق والواقع،وصناعة الجدل تستعمل فيها القضايا المشهورة والمسلمة لغرض إفحام الخصم وإظهار الغلبة عليه بغض النظرعن كونها مطابقة للواقع او غير مطابقة للواقع، وتستعمل في صناعة الخطابة المقبولات والمظنونات لغرض إقناع الجمهور واستمالتهم، وتستعمل في صناعة الشعر القضايا المخيلة لغرض تحريك المشاعر انقباضا أو انبساطا، وفي صناعة المغالطة تستعمل القضايا الوهمية المشبهة من أجل التضليل والخداع. وعلى كل حال فليس أمام الطالبين للمعارف الحقة الواقعية والفكر الصحيح إلا سلوك المنهج البرهاني (صناعة البرهان) التى هى ثمرة البحث المنطقي، وهذا هو المعبر عنه بالمنهج العقلي والذي نعتمده في بحوثنا في هذا الكتاب أساسا ومنطلقا في صياغة المنظومة الفكرية الإنسانية بجميع أبعادها بما فيها النظام السياسي الذي هو محل بحثنا بالذات. وإنما كان المنهج العقلي البرهاني هو المعتمد في ذلك لأنه منهج يقوم على أساس معلومات بديهية يقينية صادقة بالذات، ويؤلف على هيئة وصورة قياسية فطرية لا تقبل الخطأ مطلقا. ولتحديد معنى العقل البرهاني فمن المستحسن أن نتعرض لمعاني واطلاقات العقل في بعض الاستعمالات توقيا من حصول خلط مع ما نعنيه.