واقفين معًا تحت نافذة نتأمل وشم الظلال على ضفة الأبدية قلت تغيرت يا صاحبي وهدأت فها هي سفارة الموت تدنو لا تفجر صرختك الخاطفة قال لي عشت قرب حياتي كما هي لا شيء يثبت أني حي ولا شيء يثبت أني ميت الغياب يرف كزوج حمام على النيل الجنوبي يحفظ شعر الصعاليك عن ظهر قلب ويشبههم في سليقتهم وابتكار المدى هذه الأبيات كتبها شاعر المقاومة محمود درويش في رثاء شاعر الرؤية الموجعة وأمير شعراء الرفض، الجنوبي أمل دنقل، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم 21 مايو، تاركًا لنا ثروة شعرية، بل ملحمة ثقافية تحمل معاني الرفض والثورة والتمرد. ذكرنا الشاعر عيد عبد الحليم برثائية درويش لابن دنقل في الاحتفالية التي أقامها أول أمس حزب التجمع. ورغم تعدد الاحتفاليات التي نظمت إحياءً للذكري الثلاثين لرحيل شاعر الجنوب، إلا أن احتفالية التجمع بعيدًا عن متاهات السياسة كان لها وقع مختلف، ربما لأنه المكان الذي شهد الاحتفال بالذكرى الأولى لرحيل شاعر التمرد والرفض. شارك في الاحتفالية د. جابر عصفور، الذي فتح ملف ذكرياته مع أمل دنقل، وبدأ يحكي من الغرفة رقم 8 قائلاً "قبل موت أمل بثلاثة أيام كان يقول لزوجته عبلة الرويني ولأخيه أنس إنه سوف يموت بعد أيام قليلة. دخلت الغرفه فوجدت عبلة منهارة والدموع تنهمر على وجهها، ووجدت أمل يبكي، وبعدها خرجت عبلة وأخوه، وقال لي اجلس بجانبي، أريد أن أقول لك شيئًا ولاتتقبله برومانتيكية، خذ هذه النقود، احتفظ بها لأني سأموت فأرجو أن أدفن في بلدي وفي قبر أبي وإلى جانبه، وهذه الأسماء التي كتبتها لك أرجو أن تسافر بجثماني إلى بلدتي، وأتمني أن تدفع التذاكر من هذه الأموال". ويتابع عصفور "قبل أن يدخل أمل في الغيبوبة طلب من عبد الرحمن الأبنودي قصيدة "يا ناعسة لا لا لا... خلصت مني القوالة والسهم اللي جرحني قتلني لا ملامة"، وظل يسمع هذه القصيدة، ودخل في غيبوبة، ولم يكن يفيق إلا عندما تغلق هذه القصيدة. ظل أمل في الغيبوبة حتي توفي في فجر يوم 21 مايو، فذهبنا إلى الأقصر بالطائرة، ثم إلى قريته الصغيرة حتى دفن في قبر أبيه، وهنا حققت وصية صديقي الراحل أمل دنقل". وسرد عصفور قصة حياة أمل متحدثًا عن أهم المحطات الفنية والإنسانية في حياته، حيث قال "أمل دنقل كان ابن مدرس لغة عربية وشاعر بالفصحى، ولكنه شاعر عمودي، ومات وأمل في العاشرة من عمره، بدأت تظهر موهبة أمل الشعرية وهو في المرحلة الثانوية، حيث كتب قصيدة عمودية بمناسبة العدوان الثلاثي على مصر، لكن أصدقاءه قالوا له إن هذا ليس شعره، بل سرقه من والده، فغضب أمل، وكتب قصائد هجاء في زملائه من أبشع ما يمكن. وبعد أن تلقوا هذه القصائد لم يعودوا يجرءون على التشكيك في قصائده، وبعد ذلك نشر أمل قصائده في مجلة "صوت الشرق" الأدبية، وكان المشرف عليها جرجس خليل الذي آمن بموهبته، وظل يكتب القصيدة العمودية، ولم يقترب من التفعيلة، ثم جاء إلى القاهرة، وكان يعمل في شركة عمه المليونير، ولكنه تركها بعد شهور قليلة؛ لأنه كان لا يريد أن يأخذ مرتبًا من عائلته، ولم يكن يتقبل أي مساعدة من أصدقائه أو أقاربه. وبعد أن ترك شركة عمه سافر إلى السويس؛ ليعمل كاتبًا في الجمارك، وكتب قصيدة من أجمل قصائده عن السويس، يقارن فيها بين السويس المحاربة والقاهرة المستغرقة في ملاهيها الليلية، ثم خرج من السويس الي الإسكندرية وكان ذلك في عام 1961، وفي عام 1962 أقام المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب (المجلس الأعلى للثقافة الآن) مسابقة شعرية، فحصل أمل على الجائزة الثالثة عن قصيدة اسمها "طفلتها" كتبها أمل عن قصة الحب التي كانت بينه وبين جارته في مدينة الإسكندرية". وعن أهم قصائد أمل تحدث عصفور قائلاً "إن قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" كتبها أمل بمناسبة انتخابات الجمهورية في ذلك الوقت، وكانت القصيدة عبارة عن رفض لحكم عبد الناصر الذي شبهه بقيصر روما المستبد الذي رفض تحرير العبيد". وعن قصيدته الشهيرة "لا تصالح" قال "كتب أمل "لا تصالح" عام 1977، وظل يكتبها ويعاود كتابتها، واستمعت إلى كل الصياغات، وبعد هذه القصيدة أصبح أمل شاعر الرفض العربي بلا منازع، بل شاعر القومية العربية، وكان أمل يريد عندما كتبها أن يكتب ديوانًا من مجموعة أقنعة؛ حيث كان متأثرًا بمسرحية ألفريد فرج "كليب"، وعندما كتب "لا تصالح" اختار أن يأخذ بطلاً من هؤلاء الأبطال وجعله قناعًا يتحدث من خلاله". وذكر عصفور أن أمل تحول من شاعر مصري يساري إلى شاعر قومي محسوب على المقاومة العربية، خاصة بعد قصيدته "التعليق على ما حدث في مخيم الوحدات". وأضاف "على سرير المرض كتب أمل مجموعة من أروع قصائده، حيث توهجت موهبته الشعرية بشكل كبير جدًّا، وكتب "الطيور والخيول"، وعندما كتب آخر قصائده "الجنوبي"، أدركت أننا وصلنا إلى النهاية، خاصة عندما قرأت البيت الذي يقول فيه "الجنوبي يشتهي أن يري الوجوه الغائبة". وختم عصفور حديثه قائلاً "أمل دنقل آمن بالفقراء وبمصر الوطن الذي يبيعونه الآن". أمل دنقل دخل في غيبوبة عندما سمع قصيدة الأبنودي "يا ناعسة لالالا خلصت مني القوالة" أدركت نهاية أمل عندما كتب "الجنوبي يشتهي أن يرى الوجوه الغائبة"