ثلاثون عاما من الرحيل المرير لملك القصيدة الشعرية وأعظم من أنجبتهم التربة المصرية، شاعر الرفض والثورة والحب في مصر والعالم العربى الذي منح أجيالا كاملة من الشعوب العربية طاقات الأمل والإصرار في الوصول للمستحيل وعلم شعوباً معاني الإنتصار دون أن يعرف قاموسه معاني اليأس أو الخضوع والخنوع والإنحناء والإستسلام في ذل بيع مبادئه لأجل منصب أو كرسي زائل، فالإنحناء مر والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج غدا، فما أقسي الجدار عندما ينهض في وجه الشروق ربما تنفق كل العمر كي تثقب ثغرة ليمر النور للأجيال مرة، ربما لو لم يكن هذا الجدار ما عرفنا قيمة الضوء الطليق . "من طلعته راجل، ما حسسنيش إنه طفل أو صبي صغير في يوم من الايام وبيتكلم كلام ناس كبيرة وفي دراسته كان متفوق ويقرأ كتب أبوه وكتب الناس الكبيرة من مجلات سمير للكتب السماوية وهو في المدرسة الإبتدائية، كتب الشعر والفقه والدين والانجيل والتوراة والزبور والقرآن، كلنا كنا حاسين إنه هيطلع شاعر كبير وكنا فاكرين إنه بموت أبوه راح يتراجع عن الشعر والقراءة".. بهذه الكلمات تذكرت والدة الشاعر الكبير أمل أبو القاسم دنقل ابنها الذي وافته المنية في مثل هذا اليوم من عام 1983 عن عمر يناهز الثلاثة وأربعين ربيعاً . ذلك الجنوبي أمل دنقل، بن الصعيد الذي قاوم الشيطان قبل السرطان ولا غرابة أن توافق ذكري رحيله الثلاثين ذكري النكبة التي أطلت بويلاتها علينا – نحن العرب- فاذاقتنا الخزي والعار وجاء هو بسيفه الشعري ليعلم أمة العرب جمعاء أسمي معاني العزة والكرامة والإنتصار قبل الإندثار وقالها بصرخة الصمود في الجموع لتبقي حية ترن في أذهاننا جيل فجيل "لا تصالح و لو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى،لا تصالح.. ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟ أعيناه عينا أخيك؟ وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟ لا تصالح ولو توجوك بتاج الامارة، كيف تخطو على جثة ابن ابيك وكيف تصير المليك على أوجه البهجة المستعارة، كيف تنظر في يد من صافحوك، فلا تبصر الدم في كل كف، إن سهما أتاني من الخلف سوف يجيئك من ألف خلف، فالدم الان صار وساما وشارة إنه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيلٍ فجيل وغدًا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً، يوقد النار شاملةً، يطلب الثأرَ، يستولد الحقَّ من أَضْلُع المستحيل" . المجد للشيطان معبود الرياح، من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم" من علم الإنسان تمزيق العدم، من قال "لا" .. فلم يمت وظل روحا أبدية الألم.. هكذا كانت روح شاعر الرفض الجنوبي الذي لازمه مرض السرطان لأكثر من ثلاث سنوات صارع خلالها الموت دون أن يكف عن حديث الشعر, ليجعل هذا الصراع بين متكافئين.. الموت والشعر" كما كتب عنه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي . كان السرطان يأخذ من جسده النحيل فتزداد روحه تألقاً وجبروتا حتي كان بإستطاعة زواره وعائديه أن يروا صراعه مع الموت رأي العين صراع بين متكافئين، الموت والشعر وفي اللحظة التي وقع فيها الجسد بكامله بين مخالب الوحش خرج أمل دنقل من الصراع منتصرا ، لقد أصبح صوتا محضا، صوتا عظيما سوف يتردد أصفي وأنقي من اي وقت مضي . ولد أمل دنقل في عام 1940 بقرية "القلعة", مركز "قفط" على مسافة قريبة من مدينة "قنا" في صعيد مصر وكان والده عالماً من علماء الأزهرحصل على "إجازة العالمية" عام 1940، فأطلق اسم "أمل" على مولوده الأول تيمناً بالنجاح الذي أدركه في ذلك العام وكان يكتب الشعر العمودي ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي التي كانت المصدر الأول لثقافة الشاعر . بدأ أولي قصائده الشعرية عن قضية فلسطين وعيد الأم وصفقة السلاح الأولي للجيش المصري فكتب يقول : إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء لا تقتل الأعداء، لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا، تقتلنا، وتقتل الصغارا، فلا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد وخلف كل ثائر يموت أحزان بلا جدوي ودمعة سُدي وهل نريد قليلاً من الصبر.. لا، فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه، يشتهي أن يلاقي اثنتين.. الحقيقة و الأوجه الغائبة ورغم فقده والده وهو دون العاشرة والذي كان يعامله كرجل منذ طفولته وصار وهو في هذا السن مسؤولاً عن أمه وشقيقيه ثم أنهى دراسته الثانوية بمدينة قنا والتحق بكلية الآداب في القاهرة، لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول ليعمل موظفاً بمحكمة "قنا" وجمارك السويس والإسكندرية، ثم موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوية، لكنه كان دائم "الفرار" من الوظيفة لينصرف إلى "الشعر" الذي كان يجري في دمه مجري الدم . ومن خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" في عام 1969 تعرف عليه القارئ، الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانه، بعد ذلك صدرت له ست مجموعات شعرية وهي "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، تعليق علي ما حدث ومقتل القمر والعهد الأتي، أقوال جديدة عن عهد البسوس وأوراق الغرفة 8 " . عُرف بالتزامه القومي وقصيدته السياسية الرافضة من خلال مطالعاته الأدبية والإسلامية، خاصة كتاب علي أحمد باكثير "وا اسلاماه" والذي أثر فيه تأثيرا كبيرا ولكن أهمية شعر دنقل تكمن في خروجها على الميثولوجيا اليونانية والغربية السائدة في شعر الخمسينات وفي استيحاء رموز التراث العربي تأكيداً لهويته القومية وسعياً إلى تثوير القصيدة وتحديثها، لم يكن يكف عن الصراخ في الموتي لإحياء روح القومية والعروبة بداخلهم إلي هؤلاء الواقفين على حافة المذبحة أشهروا الأسلحة، سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة والدم انساب فوق الوشاح، المنازل أضرحة، والزنازن أضرحة، والمدى.. أضرحة، فارفعوا الأسلحة واتبعوني، أنا ندم الغد والبارحة، رايتي: عظمتان.. وجمجمة، وشعاري: الصباح . أثار خبر زواجه من الكاتبة الصحفية والأديبة عبلة الرويني، ضجة إعلامية كبيرة، فهو الذي ظل يفاخر طويلاً بعداوته لمؤسسة الزواج، وحينذاك اضطر أمل للتنازل عن شرفه الصعيدي ورهن ما ورثه من أراضي والده لشراء خاتم الألماس الذي طلبه أهلها فكان ينشد في أشباه الرجال محفزا إياهم نحو الرجولة فكتب يقول.. كيف تنظر في عيني امرأة، أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟ كيف تصبح فارسها في الغرام؟ كيف ترجو غدًا لوليد ينام؟ كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام، وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟ وتحكي عنه "الرويني" في كتابها "الجنوبي" عن سيرة "أمل" الذاتية وأدق تفاصيل حياته اليومية، فكتبت لتقول إن كل إنسان يراه هو نموذجه الإنساني وهو جزء من تجربته الجمالية وقد يأخذ التعامل معه شكل الإنقضاض وقد يأخذ شكل الحدة وربما انتزع منك التعاطف وأحياناً كثيرة يتزين بالصمت، لكنه دائما ما كان يحمل سلوكا إنسانيا يبحث عن طبيعة القلب الذي أمامه، وفي اليوم الأول الذي رآني فيه سألني وهو يحدق في وجهي بطريقة غريبة هل تخجلين من الحبوب المنتشرة في وجهك؟ وخجلت بالفعل وارتبكت من السؤال المباغت حتي بادرني : إني أحب هذه الوجوه ". قبل أيام من موته زاره أحد اصدقاءه ويدعي "يحيي الطاهر عبدالله" في مستشفي العجوزه عقب إجراء الجراحة الأولي له في عام 1979 وسأل زوجته في عصبية لماذا ينبغي أن يموت أمل بينما يظل "أولاد الكلب" أحياء وبكي ولم يأت إليه مرة ثانية . مات "الطاهر" في حادث سيارة أليم في العام التالي ورفض أمل الإشتراك في كل مراسم غيابه ، لم يسأل عن الأسباب، لم يتكلم في تفصيلات الموت ولم يثرثر "بشكل عاطفي" حول يحيي كما كنا نفعل جميعا، فقط اكتفي بتلك الكلمات "إن يحيي خاص بي وحدي" قالها وبكي وتلك كانت هي المرة الأولي التي تري فيها دموع أمل الأبية، ثم أنشد بعدها كلماته الصارخة، قيل لي اخرس، فخرست وعميت ائتممت بالخصيان، ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان، أجتز صوفها، أرد نوقها، أنام في حظائر النسيان، طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة وها أنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان، دعيت للميدان، أنا الذي ما ذقت لحم الضان، أنا الذي لا حول لي أو شأن، أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان، أدعي الى الموت ولم أدعَ الى المجالسة . دخل "أمل" في غيبوبة الموت فانكشف وجدانه أمامنا عالما من الموسيقي والغناء.. يا ناعسة لا لا لا لا خلصت مني القواله والسهم اللي رماني هالكني لا محالة، كانت كلمات هذه الأغنية التي غناها محمد قنديل للخال عبدالرحمن الأبنودي هي أخر ما أراد أمل سماعه قبل أن يموت . وكان قد استمع إليها مرة واحدة فقط قبل شهرين، عندما غناها محمد قنديل في حفل تلفزيوني وسألوه وقتها هل لفت نظرك شئ في الأغنية فقال لا ليس سوي أن كلماتها غريبة وتحكي عنه زوجته فتقول : استمعنا جميعا إلي هذه الأغنية الغريبة، كلما استيقظ أمل من غيبوبته فأدركنا أن الموت قادم لا محالة وأدركت لماذا استخدم الغرابة في وصف كلمات الأغنية.. لابد إنه يقصد أن الأبنودي كان يرثيه شخصيا، فاقتربت منه وسألته : هل أنت حزين؟ فأشار وهو عاجز عن الكلام تماما بأن نعم، إنها المرة الأولي التي يقول فيها "نعم" إنه القرار الذاتي بالموت، يتوقف هذا المشهد كثيرا أمام عيني كأنه ينقل سره إلي فاقتنع معه بقرار الموت وميراث الحزن الذي لا ينتهي . ثلاثة وأربعون عاما فقط هي مدة وجوده علي ظهر هذه الأرض تشعر وأنت تقرأ عنه أنه ما يزال ينبض بالحياة فيما بيننا، ولم يفارق سوي حياة الزيف والذل والتلون والكيل بمئات المكاييل، لاسيما حينما تقع عيناك أو تسمع أذناك أو يردد فوك تلك الكلمات الحية التي لا تموت أو تبلي بمرور السنوات والقرون، فمن يوقف في رأسي الطواحين ومن ينزع من قلبي السكاكين ومن يقتل أطفالي المساكين لئلا يكبروا في الشقق المفروشة الحمراء خدّامين، من يقتل أطفالي المساكين، لكيلا يصبحوا في الغد شحاذين، يستجدون أصحاب الدكاكين وأبواب المرابين، يبيعون لسيارات أصحاب الملايين الرياحين . وفي المترو يبيعون الدبابيس وياسين وينسلون في الليل يبيعون الجعارين لأفواج الغزاة السائحين، هذه الأرض التي ما وعد الله بها، من خرجوا من صلبها وانغرسوا في تربها وانطرحوا في حبها مستشهدين، فادخلوها بسلام آمنين.. فلترقد روحك الطاهرة في سلام أبدي أيها الشاعر الجنوبي، يا من ملك كلمات الحب والثورة والرفض بين يديه وفجر بركان الغضب داخل كل نفس أبية ولم يستسلم للسرطان كعهده الدائم مع الشيطان الذي رفض أن يتصالح معه في حياته وطوال سنوات عمره القصيرة فاستحق عن جدارة واستحقاق "شاعر الرفض والثورة والحب .. فارس هذا الزمان الوحيد وما سواه مسوخ" .