"الدم – الآن – صار وساما وشارة ، لا تصالح ولو توجوك بتاج الإمارة ؛ فإن عرشك سيف ، وسيفك زيف " ، كلمات قالها الشاعر الثائر أمل دنقل ، في رائعته " لا تصالح " التي كتبها اعتراضا على معاهدة السلام، فملأ الدنيا وشغل الناس وكان واجهةً رئيسية يعلِّق عليها الشعراء العرب عذاباتهم الثورية وهموم أرواحهم العالية وحزنهم النبيل، فقد كان هذا الصقر الجريح قدوة لكل الثائرين في عصره ، فأنشدوا قصائده في المظاهرات لتشعلها حماسة، فهو ومن عاصروه تجرعوا مرارة النكسة بعد تهاوي أحلام القومية العربية، وضياع حلم القضاء على الكيان الصهيوني إثر النكسة. عاش "أمل دنقل" كطائر يغرد خارج السرب ؛ فلم تجد له مثيلا من شعراء جيله ، فهو أرستقراطي مصري مسكون بالحزن والكبرياء ، إبتعد عن التعقيد في قصائده ، وكتب بطين الحياةِ المجبول من أعماقِ النفسِ البشرية بخيباتها وأفراحها المختلسة ، ليخلق حالة عشق فريدة من نوعها بينه وبين قراءه ؛ فتبكي لأجله حين ترى " مقتل القمر " ، فقد أطلق العنان لخياله ليرسم لك مشهدا متكاملا عن هذه القصيدة ، و اتسم شعر دنقل باستخدام اللغة الحية القريبة من الناس، والاهتمام بالصور الكلية الممتدة ، وعدم الاقتصار على الصور الجزئية من تشبيه واستعارة وكناية، و التحرر من وحدة البحر ووحدة القافية ، والاكتفاء بوحدة التفعيلة دون ارتباط بعدد معين، الاعتماد على الموسيقى الداخلية. ولد " الباكي بين يدي زرقاء اليمامة " في عام 1940 بقرية "القلعة", مركز "قفط" على مسافة قريبة من مدينة "قنا" في صعيد مصر ، كان والده عالماً من علماء الأزهر, حصل على "إجازة العالمية" عام 1940، فأطلق اسم "أمل" على مولوده الأول تيمناً بالنجاح الذي أدركه في ذلك العام. وكان يكتب الشعر العمودي, ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي, التي كانت المصدر الأول لثقافة الشاعر. أنهى دراسته الثانوية بمدينة قنا, والتحق بكلية الآداب في القاهرة لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول ليعمل موظفاً بمحكمة "قنا" وجمارك السويس والإسكندرية ثم موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوي, لكنه كان دائم "الفرار" من الوظيفة لينصرف إلى "الشعر". عرف بالتزامه القومي وقصيدته السياسية الرافضة ولكن أهمية شعر دنقل تكمن في خروجها على الميثولوجيا اليونانية والغربية السائدة في شعر الخمسينات, وفي استيحاء رموز التراث العربي تأكيداً لهويته القومية وسعياً إلى تثوير القصيدة وتحديثها. وعرف القارىء العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969) الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانه. صدرت له ست مجموعات شعرية هي: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة'' - بيروت 1969، تعليق على ما حدث'' - بيروت 1971، مقتل القمر'' - بيروت 1974، ''العهد الآتي'' - بيروت 1975، أقوال جديدة عن حرب البسوس'' - القاهرة 1983، أوراق الغرفة 8'' - القاهرة 1983، لازمه مرض السرطان لأكثر من ثلاث سنوات صارع خلالها الموت دون أن يكف عن حديث الشعر، وتوفي امل دنقل متأثرا بمرضه في مايو من عام 1983 في القاهرة وخسرت مصر شاعرا طالما احبها وعشقها وثار من اجلها من خلال أشعاره. وقال عنه الشاعر شعبان يوسف "إن كلمات أمل دنقل لم تذبل حتى الآن ومازالت متجددة ؛ نظرا للحالة الإبداعية التي خص بها نفسه منذ عام 1960 وحتى رحيله ، فكان له حضور خاص بين أبناء جيله ، وتميز بالطابع الثوري الذي تجسد في قصائده السياسية ، التي لم تكن مجرد شعارات أو تحريض مباشر ، وكان يعتمد على الإستدعاء التراثي والوجوه التاريخية لتوصيل رسالته وتوثيقها ، فكثيرا ذكر المتنبي وصلاح الدين الأيوبي وهنيبال وغيرهم ، لكي يقارن موقف حاكم بآخر أو يظهر حالة بعينها في الماضي وتبدلت في الوقت الحالي". وأكد "يوسف " أن أمل دنقل شاعر حقيقي لم تنكسر صلابته ، ومازال الشباب يتعاملون مع قصائده حتى الآن ، نظرا لأسلوبه الجذاب وكلماته التي تصلح لكل زمان ؛ والدليل على ذلك أن قصيدة " كلمات سبارتكوس الأخيرة " ؛ "من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "، من علّم الإنسان تمزيق العدم، من قال " لا " .. فلم يمت، وظل روحا أبدية الألم !" ، فقد كان ذلك إلتقاط لأعلى اللحظات التاريخية والدرامية ، والتي استخدمها ليمرر من خلالها ألامه وأوجاعه وأفكاره ، فهو لم يكن يتحدث في روما القديمة ولكنه قصد الشعب المصري والأمة العربية . أما الشاعر عوض بدوي قال "إن الزمن لن يجود بمثل أمل دنقل مرة ثانية ، فهو شاعر متفرد ومختلف عن غيره في فكره وفلسفته وأسلوبه ، وقد إنعكست ثقافته الضخمة على أعماله وشعره ، مشيرا إلى أنه أحد أهرامات الشعر العربي ، ومهما جاء شعراء بعده لن يتمكن أحد من الوصول لمستوى إبداعه ، فهو من بين أبناء جيله تختلف مفرداته عن الجميع، وعلى الرغم من وجود شعراء أكثر منه شهرة إلا أن موهبته وعبقريته جعلته أكثر ثراء وعمقا" .