يخرج من بركان لا يهدأ إلا ليثور، يوزع ثورته في نفوس كثيرة، يعلن رفضه الأبدي وتحديه وصموده في وجه من أرادوا اغتصاب الأرض ومحو الوجوه والحروف والكلمات والأشجار والألوان؛ ليؤكد في النهاية أنه لا بديل عن العودة. هكذا عبر شعراء المقاومة في قصائدهم التي تشكلت من التشريد والإبعاد والبؤس والحرمان والتحدي والصمود عن نكبة أبناء فلسطين الذين عاشوا في الغربة باحثين عن مأوى، لاجئين في الخيام، مشردين، حاملين عذابات الارتحال الدائم. ومن بين هؤلاء الشعراء شاعر فلسطين محمود درويش الذي ذاق مرارة اللجوء والبعد عن الوطن منذ كان طفلاً صغيرًا، حيث نزح مع عائلته إلى لبنان في نكبة 1948 من قرية البروة، ثم عاد إلى فلسطين متخفيًا؛ ليجد قريته قد دمرت على يد القوات الصهيونية، ومنذ ذلك الوقت اعتبر درويش الشعر سلاحًا في الصراع بينه وبين اليهود؛ إذ يقول "نحن في الحاجة إلى درس الوطن الأول أن نقاوم بما نملك من عناد وسخرية، بما نملك من جنون"، وكان يقول أيضًا "إننا عندما نكتب نتحدى، وعندما نكون موجودين علي أرضنا نتحدى ، وعندما نأكل من زادنا نتحدى؛ لأننا نقاوم ترجمة الوطن إلى الصهيونية أرضًا وتقاليد وزادًا". وعند التطرق لمضامين قصائده نجد أنها تتمحور حول الرفض والصمود والمقاومة، ووصف الجرائم التي ارتكبها الصهاينة في حق شعبه، ويقول في إحدى قصائده: وضعوا على فمه السلاسل ربطوا يديه بصخرة الموتى وقالوا: أنت قاتل أخذوا طعامه والملابس والبيارق ورموه في زنزانة الموتى طردوه من كل المرافئ أخذوا حبيبته الصغيرة ثم قالوا: أنت لاجئ هنا يصف درويش الجرائم التي ارتكبها اليهود في حق الشعب الفلسطيني والقيود والسلاسل التي وضعوها على يده حتى سرقوا وطنه، فهو يقصد بحبيبته الصغيرة هنا "وطنه فلسطين". وفي قصيدة أخرى يقول: يا ويل من تنفست رئاته الهواء من رئة مسروقة يا ويل من شرابه دماء ومن بنى حديقة ترابها أشلاء يا ويله من وردها المسموم في هذه القصيدة يصرخ درويش مخاطبًا الأعداء الذين هدموا بيوت الشعب الفلسطيني، وشيدوا بلاطهم على أشلائه، وشربوا من دماء شهدائه. وفي قصيدته "أمل" يدعو الناس إلى المقاومة والحفاظ على كل ما يمتلكون حتى آخر قطرة من دمائهم، ويقول فيها: ما زال في صحونكم بقية من العسل ردوا الذباب عن صحونكم لتحفظوا العسل ما زال في كرومكم عناقيد من العنب ردوا بنات آوى يا حارس الكروم لينضج العنب ما زال في بيوتكم حصيرة وباب سروا طريق الريح عن صغاركم ليرقد الأطفال الريح.. برد قارس..فلتغلقوا الأبواب ويأتي توفيق زيادة صاحب الكلمات المتوهجة بالتحدي والعزم والتصميم، مجسدًا في أشعاره لروح شعب لا ينهزم وكبرياء أرض لا تهون وهوية مرسومة عبر الوجوه. ويقول في إحدى قصائده: كأننا عشرون مستحيل في اللد في الرملة والجليل هنا علي صدوركم، باقون كالجدار وفي حلوقكم كقطعة الزجاج، كالصبار وفي عيونكم زوبعة من نار هنا علي صدوركم، باقون كالجدار نجوع، نعري، نتحدي ننشد الأشعار ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات ونملأ السجون كبرياء ونصنع الأطفال جيلاً ثائرًا وراء جيل إنا هنا باقون أما الشاعر هارون هاشم الرشيد فهو واحد من شعراء الخمسينيات الذين أطلق عليهم "شعراء النكبة" أو شعراء المخيم، كان من أكثر الشعراء استعمالاً لمفردات العودة، صاحب اللاجئين منذ اللحظات الأولى، فتفجر شعره من هذه المأساة، وكتب ديوانه الأول عام 1954، وكان بمثابة وثيقة نفسية وإنسانية ترصد ألم اللجوء وحياة المشردين. ومن بين قصائده: سنرجع يومًا إلى حينا ونغرق في دافئات المنى سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا فيا قلب مهلاً ولا ترتمي على درب عودتنا موهنا يعز علينا غدا أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا وفي قصيدته "بوابة الدموع" يعبر الشاعر سميح القاسم عن شوق ولهفة اللاجئين لوطنهم المسلوب، وحنينهم الممزوج بالألم والحسرة: أحبابنا.. خلف الحدود ينتظرون حبة من قمحهم كيف حال بيتنا التريك؟ وكيف وجه الأرض؟ هل يعرفنا إذا نعود؟ يا ويلنا حطام شعب لاجئ شريد يا ويلنا من عيشة العبيد فهل نعود؟ هل نعود؟