في زنزانة تكسوها الوحشة والأسلاك الشائكة، وبين جدران مدببة تستوطنها الغربة، عاش الأسري الفلسطينيون سنوات طويلة، يتجرعون آلام القهر والتعذيب علي يد سجان تفنن في قمعهم، وبعد أن فاق الألم حدود المكان، حاول الاسرى الهروب من واقعهم الأليم، لواقع آخر يملؤه الأمل، فحولوا سجنهم الي عاصمة للحياة، وهو سر الإبداع الفلسطيني. خلف قضبان المعتقلات الاسرائيلية ولدت القصيدة الأسيرة، منتشية بقطرات الحرية، حاملة لرقة العشاق، وطهارة الإنتماء.فلم يمر الوقت، الذي يحاول السجان سرقته من أعمار الأسري، دون أن يحولوا معاناتهم الي ابداع يحمل الخصوصية الثورية وعنف المقاومة. وإذا تتبعنا تجربة شعر الأسري، فلن نجد شاعرا مقاوما واحدا من شعراء فلسطين لم يدخل المعتقلات، ولم يتعرض للقمع، وتلك الوحشة الإنسانية، لذا سنجد في تجربة كل شاعر فلسطيني أياما عاشها في المعتقلات، أثرت في مسيرة حياته وأشعلت شعره الثائر. وكان الشاعر " توفيق زيادة" من أوائل الشعراء، الذين عبروا عن تجربة الاعتقال، ويصف "زيادة" إحدي لياليه في سجن " الدامون" فيقول أتذكر إني أتذكر " الدامون" لياليه المرة والأسلاك والعدل المشنوق علي السور هناك والقمر المصلوب علي فولاذ الشباك ومزارع من غش أحمر في وجه السجان الأنقر أتذكر أتذكر لما كنا في أحشاء الظلمة نسمر في الزنزانة في الدامون الأغبر وفي آخر قصيدته تتصاعد روح المقاومة ويعد الشاعر شعبه بالوفاء بالعهد يا شعب يا عود الند يا أغلي من روحي عندي إنا باقون علي العهد ، لم نرض عذاب الزنزانة وقيود الظلم وقضبانه ونقاسي الجوع وحرمانه ونجد أبرز سمات شعر المقاومة الفلسطينية، من التمسك بالأرض والتغني بحب الوطن، متمثلة في قصيدة شاعر المقاومة محمود درويش، الذي خاض تجربة السجن ويقول في إحدي قصائده يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التوقيف باقية ولازرد السلاسل نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل وحبوب سنبلة تموت سنملأ الوادي سنابل وفي قصيدة أخري بعنوان " كبر الأسير" يقول درويش تتموج الذكري ، وبيارات أهلي خلف نافذة القطار وتغوص ، تحت الرمل والبارود ، دار كل النوافذ أشرعت في ذات يوم للعيون السود، واحترق النهار ولعا بساحتك الصغيرة وأنا كبرت .... كبرت حطمت المرايا كلها و ظل درويش يحمل الألم المقدس، والمعاناة الطاهرة، ويجسدها في أدبه الممتد لعقود طويلة، فلم يتوقف عن قصيدته الثائرة، المقاومة حتي بعد خروجه من السجن وحصوله علي حريته، لأن وطنه مازال سجينا ويقول في قصيدة أري ما أريد أري ما أريد من السجن : أيام زهرة مضت من هنا كي تدل غريبين في علي مقعد في الحديقة، أغمض عيني ما أوسع الأرض ما أجمل الأرض من ثقب إبرة ورغم قرار منع الورقة والقلم، وحملات التفتيش الفجائية لمعاقبة من يحملها، إلا أن الأسري لم ييأسوا، ولم يحبسوا مشاعرهم، و لجأوا الي وسائل أخري للكتابة؛ منها ورق الكرتون ورق علب اللبن؛ لكنهم يعتبرون أن أجمل ما كتب، كان علي جدران الزنازين، ويعبر الشاعر سميح القاسم في قصيدته " رسالة من المعتقل" التي كتبها علي ورق كرتون عن معاناته داخل الزنزانة قائلا ليس لدي ورق ولا قلم لكنني من شدة الحر ومرارة الألم يا أصدقائي لم أنم وفي قصيدة مشحونة بالألم والأمل اللانهائي، رغم المعاناة والقهر يقول الشاعر سليم الزريعي، بعد أن أمضي عشرين عاما في الأسر عشرون عاما لم أزل أمضي الي حيث الأمل وعهود عشق في المقل للأرض للشعب البطل فعذاب عقدين اكتمل والرأس بالشيب اشتغل ما راعني دنو الأجل ولا استبدني الوجل فوميض فجري قد أطل من كف طفل يرتجل ويحول الشاعر عدنان الصباح ليل السجن الموحش الي فرح يزين سماء الوطن ، وعندما يقلقه الهم والحزن في سجن جنين يرسم خارطة جديدة للعالم ويحفر طريقا إبداعيا للوطن ، ويقول في قصيدته لا أعرف للنوم مذاقا وأظل طوال الليل وأرسم خارطة العالم أحفر فوق الورق الصلب خطوط الورد مكان الحد وتصير خطوط الورد جميلة حين أجيء لأرض بلادي وتعلو صيحات التحدي والمقاومة في قصيدة الشاعر عمر خليل، ويأتي صوته كأنه ينبعث من ساحة معركة ويقول في قصيدته برغم السجن والسجان والقيد ورغم زنازن التعذيب والتحقيق والتعليق من قدم ومن زند ورغم مطارق الجلاد واللعنات يرسلها ، ورغم القيء والبرد سيعلو صوتي المحبوس كالرعد ولن أركع ورغم أن القصيدة كتبت خلف القضبان عام 1970، فهي لم تر النور إلا في عام 1993، ما يؤكد أن كثير من إبداعات الأسري ظلت حبيسة، حتي العقد الأخير من القرن العشرين. هؤلاء هم شعراء المقاومة، الذين لم يكتبوا خلف أبراجهم العاجية، ولا علي مقاعد مكاتبهم الوثيرة، بل كتبوا وهم يعانون من شدة الألم وقسوة القيد.