كانت بيروت الأبرز بين العواصم العربية الجاذبة للمثقفين وصل إليها عدد من أبرز المثقفين الناشطين سياسيا لكنهم كانوا علي موعد مع معركة أخري جعلتهم أحيانا يقفون في خندق واحد مع المقاومة الفلسطينية خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982. الشاعر حلمي سالم: التخاذل العربي سبب كل النكبات الفلسطينية ذهبت إلي بيروت عام 1980، أي قبل الحصار الإسرائيلي لبيروت، وظللت بها حتي أواخر 1982، وكان ذهابي بدافع أن أعيش في قلب الثورة الفلسطينية لبعض الوقت، وأن أشاركهم بالكلمة والكتابة لأنني لا أحمل سلاحا في مقاومتهم ومأساتهم، وهو ما فعله عدد من الكتاب والأدباء المصريين، آنذاك، وقد أتي ذلك في ظل ظروف التضييق علي الحريات التي شهدتها مصر عقب اغتيال السادات، فكان السفر إلي لبنان ،بلد الحرية الفكرية والأدبية آنذاك هو الحل، ثم حدث الاجتياح الإسرائيلي لها فظللنا إلي جانب المقاومة الفلسطينية واللبنانية إلي أن خرجنا بعد انتهاء الحصار. كانت مقاومة الفلسطينيين أثناء حصار بيروت أسطورية ذكرت الجميع بمقاومة باريس للنازيين في الحرب العالمية الثانية، لكن التخاذل العربي واتفاق النظم العربية مع أمريكا وإسرائيل والسعودية علي خروج الفلسطينيين هو الذي هزم هذه المقاومة، طيلة ثلاثة أشهر، وكان من الممكن أن تكون بداية حقيقية لتحرير فلسطين، لكن النظم العربية لم تفعل في ذلك الحصار سوي التواطؤ وتجهيز السفن التي سينزح فيها الفلسطينيون. وبدون معايشة حصار بيروت الميدانية، فنحن العرب جميعا، مهتمون بالقضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية لنا، وبدون إطناب أقول إن نكبة فلسطين الحقيقية هي تخاذل الأنظمة العربية، فلم يتصور أحد أن منظمة التحرير الفلسطينية مثلا هي التي ستحرر فلسطين، إنما هي عامل مقاومة مساعد، ولذلك فإنني اري أن كل نكبة فلسطينية كان وراءها النظام العربي : نكبة 48 وكان وراءها الأنظمة الفاسدة وليس الأسلحة الفاسدة فقط، نكبة 67 وكان وراءها هزيمة الجيوش العربية ،نكبة أيلول الأسود عام 1970 في الأردن قتل فيها الجيش الأردني من الفلسطينيين أكثر مما قتلت إسرائيل في عقود طويلة، نكبة عام 78 باتفاقيات كامب ديفيد والاتفاق الفردي بين السادات وإسرائيل، نكبة 91 باتفاقيات أوسلو التي اضطر إليها الفلسطينيون حسب إمكانياتهم الضعيفة بعد أن تخلي العرب عنهم، ثم النكبة الخامسة التي بدأت منذ عام وهي الانقسام الفلسطيني بين حركة فتح وحماس، والتي تبدو وراءها أصابع الأنظمة العربية وبخاصة أنظمة (الاعتدال العربي)، أي أنظمة الرجعية العربية . مثَّل حصار 82 إحدي النكبات الكبري في المسار الفلسطيني وهي راجعة لصمت بلادنا علي محاصرة واحتلال عاصمة عربية ،ومشاركة هذه الانظمة في مأساة الخروج الفلسطيني المهين، وهذا يعيدنا إلي أن تلك الأنظمة المتخلفة والرجعية، حتي تلك التي يقال عنها (تقدمية) هي التي وجهت ضربات قاسمة للمقاومة الفلسطينية. الروائي رءوف مسعد: المثقفون العرب كرسوا لتلك النكبات لم أنضم أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان للمقاومة الفلسطينية أو اللبنانية لكن بعد خروجي من لبنان إلي مصر رفضت السفر إلي أي دولة عربية أخري كما حدث للعديد من الفلسطينيين، قمت بإصدار كتاب "صباح الخير يا وطن" وفيه سردت ما كان يحدث أثناء حصار بيروت. كنت قد سافرت للبنان عام 1979 لأعمل بجريدة "السفير" اللبنانية، ومجلة "بيروت المسا" التابعة لمنظمة العمل الشيوعي اللبناني بعدما تركت العراق لاستيلاء صدام حسين علي الحكم بها. وفي الذكري الستين علي مرور نكبة 48، أقول إنه بينما قادت مصر " الشعبية " خلال العقود الماضية، حركة المقاومة العسكرية بكافة أنواعها ضد العصابات الصهيونية كما اُطلق عليها آنذاك .. تقود مصر الرسمية الآن حركة قمع الفلسطينيين منذ اتفاقية كامب ديفيد وحتي إقامة الجدار العازل الآن بين مصر وفلسطين بمساعدة إسرائيل وخبرة سلاح المهندسين الأمريكي تدعيما لأمن إسرائيل الذي تقوم مصر بحمايته وتطلق النار علي "المتسللين " إلي إسرائيل عبر حدودها!! هذا هو الوضع السياسي - الأمني بعد ستين عاما علي النكبة أو هكذا يطلقون عليها لأنها تبدو وكأنها وقعت علينا بفعل قوة غامضة أو نتيجة تفاعلات الطبيعة مثل الأعاصير والزلازل ونحن منها براء بل ضحايا! الحقيقة اننا كلنا قد شاركنا ونشارك بأشكال متفاوتة في ترسيخ النكبة التي هي من صنع أيدينا وعقولنا . بعد ستين عاما حدثت تغيرات هامة في الصراع العربي الإسرائيلي والذي أحدث هذه المتغيرات هو حزب الله اللبناني وتنظيم حماس الإسلامي الفلسطيني .. ويا للعجب فهذان التنظيمان المسلحان الشيعي والسني يقومان الآن كل من موقعه وبقدر طاقته في مقاومة المخطط الصهيوني الإسرائيلي بينما انكفأت القوي العسكرية العربية النظامية في ثكناتها أو علي وجه الدقة في مساكنها الفاخرة بعد أن حيدتها الأنظمة التي وعت درس 23 يوليو 1952 في مصر وثورة 14 تموز في العراق وانقلاب العسكر في ليبيا بقيادة القذافي . وفي ظل نكبة 48 وما بعدها يمكننا أن نقول إن المثقف العربي عامة والمصري خاصة يواجه خيبات متتالية وخديعة تلو الخديعة.. يشارك أحيانا فيها بوعي وأحيانا مدفوعا بقوة القصور الذاتي والتقاليد العربية الشرق اوسطية القوية بعلاقة المثقف بالسلطان ايا كان نوعه ! ولكي لا أطلق الكلام هنا علي عواهنه أستدرك فأقول إن قلة قليلة من المثقفين العرب والمصريين نأت بنفسها عن ذهب المعز والتجأت إلي "التكية" لكي تنجو من سيفه. اعتبر المثقفون أن تذمر الأطراف المهمشة هو مؤامرة صهيونية إمبريالية لصرف النظر عن " قضية العرب المركزية " فلسطين وإهمال القضايا "الفرعية والجانبية " مثل الديمقراطية والفقر والفساد والتهميش العرقي والديني !! بعد ستين عاما علي النكبة إياها، نجد أن صعود التيارات الإسلامية من شيعية وسنية في مواجهة دولة إسرائيل التي تقوم أساسا علي أساطير دينية عرقية يضع المثقف اليساري العربي أمام خيبات واختيارات واختبارات صعبة ومعقدة وهو الذي تربي علي "دوجمة" إن الدين أفيون الشعوب .. فبعد ستين سنة علي غطرسة إسرائيل العسكرية والعرقية انقلب السحر علي الساحر برغم خطورة تحول الشعار الوطني المقاوم للمغتصب إلي شعار ديني استشهادي وتلخيص فلسطين في المسجد الأقصي إلا اننا علينا أن نتعامل مع هذه المتغيرات بموضوعية كما علينا أن نتعامل مع المتغيرات داخل المجتمع الإسرائيلي التي تنادي بالسلام ورفض الصهيونية الدينية المسلحة ! النكبة الأساسية الآن بعد ستين سنة هي حال المواطن الفلسطيني في غزة تحت حكم حماس وما يفرض عليه من الغرب ومن العالم العربي الرسمي، من عقاب لاختياره حماس ديمقراطيا وكذا المواطن الفلسطيني تحت حكم فتح الفاسدة التي تسحب قواتها من الشوارع في الضفة الغربية ،متي أمرتها إسرائيل لكي تتجول القوات الإسرائيلية بحرية تخطف وتأسر من تريد ! ستون عاما من استثمار مغرض لنكبة فلسطين حوّلت المثقف في الأنظمة العربية إلي"تابع" لا يملك سوي ردود أفعال مخزية أو عصبية. الكاتب والناشط اليساري الدكتور إيمان يحيي: تغيرت صورة الفلسطيني بعد النكبة سافرت إلي لبنان عام 1980 لكي أنضم للمقاومة الفلسطينية هناك، وأثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت اشتغلت بالهلال الأحمر الفلسطيني، في مستشفي بالجنوب اللبناني، إلي أن عدت بعد انتهاء الحصار، أما في الذكري الستين علي مرور النكبة فأعتقد أن صورة الفلسطيني بعد نكسة 48، كانت مرتبطة باللاجئ وصرة الملابس، وخيام المخيمات، كان التخلص من تلك الصورة صعبا، حتي جاءت حرب يونيو 67، تبدلت صورة الفلسطيني إلي الفدائي ذي الكوفية المنقطة ومدفع الكلاشينكوف، تحولت المخيمات في لبنان والأردن وسوريا إلي معسكرات للمقاومة والصمود. بعد 67 ورغم التأثيرات السلبية للنكسة كان احتلال الضفة والقطاع سببا مباشرا لإعادة اللحمة والتكامل لأرض فلسطين وتواصل فلسطينيو 48 مع فلسطينيي الضفة والقطاع. تجيء هذه الأيام والقضية الفلسطينية في منعطف خطير، من جديد ينفصل فلسطينيوغزة عن فلسطينيي الضفة وتتعثر القضية في سراديب المفاوضات والمساومات الاقليمية والدولية . يفقد السلاح الفلسطيني البوصلة التي طالما أرشدته إلي الاتجاه الصحيح، ونفاجأ باقتتال الإخوة والرفاق، وتعود مرة أخري معاناة الفلسطينيين إلي مقدمة الصورة . الناشط اليساري والكاتب أحمد بهاء الدين شعبان: الشعب الفلسطيني ظلم وعلينا أن نساعده سافرت إلي لبنان عام 1978، بعد انتفاضة 18، و19 يناير بمصر حيث اتهمت وقتها بالتحريض علي قيام هذه الانتفاضة، وقد عاصرت هناك ذروة حركة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري، كنت ضمن عدد كبير من الوطنيين المصريين كالفنان عدلي فخري والشعراء حلمي سالم ومحسن الخياط وزين العابدين عواد وغيرهم وبحكم تواجدنا وسط دائرة المعركة فقد أخذت مقاومتنا شكل الكتابة في الصحف والمجلات، وكنا نتجه للتوعية السياسية لمساندة المقاتلين، وقد رأيت بنفسي في لبنان كيف واجه البسطاء الفلسطينيون العزل القوي المعتدية الصهيونية بشجاعة لا نظير لها وبمعاونة الحركة الوطنية اللبنانية آنذاك مما أجبر القوي الغازية علي الانسحاب تفاديا للخسائر البشرية الضخمة، وأعتقد من هذه التجربة أن الشعب الفلسطيني قادر علي استعادة حقوقه التاريخية ولن يقبل عن تحرير فلسطين الكاملة بديلا، وبالتالي أؤمن بصمود الشعب الفلسطيني واستعداده الكبير لتقديم كل تضحية من أجل حماية أرضه ووجوده والدفاع عن قضيته، والحقيقة لقد ظلم الشعب الفلسطيني ظلما كبيرا، حينما وجهت إليه القوي المضادة تهما بتخليه عن أرضه وهروبه من مواجهة مسئولياته . والشعب الفلسطيني شعب عظيم، قدم ويقدم كل ما يتطلب منه للدفاع عن أرضه في مواجهة القوي الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية المدعومة بمساندة غير محدودة من الغرب ومن الولاياتالمتحدة بالذات، وعلينا نحن المصريين والعرب أن نقدم له كل سبل المساعدة لتمكينه من أداء هذه المهمة التاريخية، التي يدافع عبرها ليس عن حقه المشروع فحسب وإنما عن أمن وسلامة مصر والوطن العربي. الشاعر سمير عبد الباقي: قاومت بالقصائد كنت في حصار بيروت عام 1982 أكتب قصيدة يومية لجريدة النداء (جريدة الحزب الشيوعي اللبناني)، صحيح أن أياما مرت كان يستعصي علي توصيل القصيدة إلي الجريدة ولكن تلك القصائد رصدت علاقتي بالمدينة المناضلة المحاصرة في أعمال جمعتها فيما بعد في ديواني (قصايد تحت القصف )، ولأنني غاضب وموجوع مما حدث ويحدث في فلسطين، ولم أعد محترف سياسة فأنا احتمي من سؤالكم بواحدة من تلك القصائد، فهي أفضل من أي تحليل أو أي ادعاء أو تفسير أو أي محاولة لتبرئة النفس أو التنصل أو الالتفاف حول الحقائق المرة التي جسدها العجز والخيانة واتقاد قدرة الخيال التي تصنع الثوار وتولد من وهجها حرية الإنسان والوطن (طلعة وطن) مزع تياب الضحية اطلع من تاريخك الأليم من ليل سجونك الغبية من ويل ملوكك الخطية إطلق خيول أحلامك العصية واجمع شتات أولادك الشقية وشق صدر ضعفك القديم .. لا تحتمي إلا بجموع الناس تمتد بيك جدور طلوعك اللي جاي.. في الزمن وفي المكان.. عمره ما كان ولن يكون - وطن عظيم إلا وخطت حدوده صلابة المتراس .. وأنا ..ياللي باكره سيل الدم والأسية.. باحب طلعة الأوطان من الجراح الأبية ..ورهافة الإحساس