ليس هذا المقال تحليلا سياسيا ولا محاولة لتقييم الموقف وطرح حلول، فمن ذا الذي يملك- في اللحظة الراهنة- أن يزعم أنه يفهم الموقف بكل أبعاده، ومن ذلك الذي يملك من التفاؤل ما يكفي لجعله يتصور نفسه قادرا علي طرح حلول؟ لا تعتبره مقالا سياسيا صرفا إذن، بل اعتبره بكائية علينا نحن الذين خرجنا في الخامس والعشرين من يناير مطالبين بالتغيير، وكذلك علي من أيدنا وآزرنا بالقول أو الفعل، أو دافع عنا طوال مواجهاتنا المختلفة مع قوي عرقلة الثورة المختلفة، المقال إذن-وبدون مقدمات طويلة- هو تناول لما طرأ علينا نحن- من قام بالثورة ومن تعاطف معها- من تغيرات منذ قيام الثورة و حتي الآن. كانت الفترة منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتي اليوم الذي عرفنا فيه بأمر جولة الإعادة بين مرسي وشفيق هي مرحلة الطفولة الثورية، أو زمن البراءة الذي بدا فيه الحق بينًا مميزا عن الباطل ومتمايزا عنه.. مرحلة وضوح الرؤية والاختيارات. بدت الحياة حينئذ كفيلم عربي ميلودرامي من عصر الأبيض والأسود حيث الأبطال الأخيار الذين لا يمكن لشيء أن ينال من نقائهم ومثاليتهم وطهارة أذيالهم، ولا يمكن لكيد أو محنة أن يمنع انتصارهم المحتوم الذي لابد آت ٍ قبل تترات النهاية، وكل من عداهم وحوش آدمية تشربت أرواحها حتي الثمالة بنقيع الشر الخالص بحيث لا يراودك أي شيء من تأنيب الضمير وأنت تشهد سقوطهم المحتوم أيضًا قرب تترات النهاية.كانت الثنائية واضحة واليقين قاطع والضد بالضد يعرف: فإما الثورة بكل ما تمثله من انتصار لقيم الحق والخير والجمال وإما مبارك ونظامه الذي يصمك التعاطف معه بوصمة الفساد والانتهازية والأنانية..إلخ. ظل الخط الفاصل بين الحق والباطل علي وضوحه – في نظر الأغلبية علي الأقل- طوال المرحلة الانتقالية. ظلت الثورة ومن تمترس في خندقها هي الحق المبين وجاءت انتخابات الرئاسة فحبسنا أنفاسنا إذ اعتقدنا أننا نشهد ذروة الصراع بين المعسكرين، فبحسابات الطفولة الثورية كان المفروض أن يصل إلي سدة الحكم أحد أبناء معسكر الثورة، أو – في أسوأ الأحوال- أن يكون النهائي بين مرشحين يمثلان طرفي الثنائية الواضحة القاطعة: الخير والشر.. الحق والباطل.. الثورة وأعداءها، غير أن المفاجأة التي قلبت الموازين كانت – كما نعلم جميعًا- هي تنحي معسكر الثورة عن المشهد تمامًا واقتصار المنافسة علي ممثلين ينتميان لمعسكر الشر وفقًا لحسابات الطفولة الثورية. منذ تلك اللحظة الحرجة العصيبة في تاريخ مصر لم تعد الطريق واضحة بينة ولم يعد هناك خيار واحد من شأنه أن يدع الضمير الثوري هانئًا مطمئنًا. فبادئ ذي بدء، اختار البعض مرسي واختار البعض شفيق انطلاقًا من نظرية "أخف الضررين"، بينما اختار فريق ثالث تجنب الخيارين بالمقاطعة، إلا إن الشعور بالمرارة وحد بين الجميع. لقد ولي زمن البراءة الجميل وصرنا جميعًا كأطفال تبدد عالمهم الوردي الآمن ليطالعهم فجأة عالم البالغين الذي لا يرحم. هرمنا جميعًا ونحن نخوض غمار التجربة المرهِقة المدمرة للأعصاب. كان يوم 30 يونيو 2012 هو اليوم الذي أدركنا فيه كم كنا سذجًا حين تصورنا أن الحق والباطل منفصلين انفصال الزيت والماء وأنه بإمكاننا تجاوز الأزمة دون أن ينال من نقائنا الثوري شيء. منذ ذلك الحين صارت الاختيارات كلها من النوع الذي يثقل الروح ويبعث في الحلقة غصة وفي النفس حسرة علي البراءة الضائعة. ولعل أبرز أمثلة ذلك معارك مرسي اللامنتهية مع القضاء؛ هل تتذكر مثلا موقفك من حل البرلمان؟ قد يكون القرار أفرحك باعتباره خطوة ضد أخونة الدولة، لكنك ظللت مع ذلك واعيًا بأن الفرح بحل المؤسسة الوحيدة المنتخبة من قِبَل الشعب يتناقض ونقاءك الثوري السابق. قد تكون أيضًا ممن فرحوا بخبر إقالة مرسي للنائب العام السابق عبد المجيد محمود، لكن فرحتك لم تخل من شعور بأنك الآن قد صرت ضد استقلال القضاء الذي طالما هتفت- أيام طفولتك الثورية- مناديًا به. صار الاختيار دائمُا بين السيء والأسوأ، وتعلمنا من الإسلاميين - وياللمفارقة الساخرة المريرة- فقه الأولويات ومبدأ درء المفسدة المقدم علي جلب المنفعة. ولن أتحدث عن تجاوز البعض حدود المواقف البراجماتية السابقة إلي ترديد مقولة عمر سليمان (الشعب المصري غير مستعد للديمقراطية) أو استحسانهم لما كانوا يدينونه سابقًا من قمع الرؤساء السابقين للإسلاميين المزعومين. ولقد تبلورت حالة الخروج من جنة البراءة الثورية تلك مؤخرًا في موقف بعض الثوريين -الذين لا مجال للمزايدة علي ثوريتهم- تجاه ما يُطرَح حاليًا من وجوب قيام الجيش بانقلاب عسكري وتوليه مقاليد الحكم مرة ً أخري. إن ليبراليين طالما نظروا إلي جمال عبد الناصر (وكل ذي بدلة عسكرية ولو تمتع بالشعبية كفيدل كاسترو وهوجو شافيز ) باعتباره طاغية مصيره مزبلة التاريخ، وطالما هتفوا بسقوط حكم العسكر، قد صاروا الآن يعقدون المقارنات بين العسكر و الإسلاميين محبذين- آخر الأمر- عودة العسكر، وهم لا يفكرون فيما بعد عودة العسكر. هم يعلمون تمام العلم أن المواطن البسيط سيتولي بنفسه الذود عن العسكر إذا ما حدث وفكر أحد في المطالبة ثانية ً برحيلهم. هم يعلمون أن الثورة علي العسكر أمر لن يتكرر بعد ما رآه الناس في ظل حكم الإخوان، لكنهم يائسون كالجميع. إنني لا أدين أحدًا.. ولا أحاول- كما قلت سابقًا- تقديم تحليل سياسي ، فالتحليلات كثيرة، وهي لم تعد تعدو كونها تسجيلا لمواقف أو محاولات لإبراء الذمة. إنني فقط أنعي براءتنا الثورية الضائعة، وأعتقد أنني لست وحدي الحزينة علي ضياعها.