الأوله ... آه ... والثانية .... آه .... والثالثة آه الأوله : مصر ... قالوا تونسي ونفوني والثانية: تونس.... وفيها الأهل جحدوني والثالثة : باريس... وفي باريس جهلوني هكذا لخص الشاعر الثائر " بيرم التونسي" رحلة حياته المؤلمة والممتعة في نفس الوقت، حيث قضي أغلب سنوات عمره منفيا ، ليس لشيء سوي لنضاله من أجل الحرية ودفاعه عن الطبقات الكادحة في المجتمع المصري . فلم يكن" محمود محمد مصطفي بيرم التونسي "الذي كتب بالفصحي والعامية ، وكتب الأغنية والأوبريت والأزجال والمقامات حتي أصبح من أعلام الزجالين في مصر والوطن العربي ، مجرد شاعرا أو زجالا فقط انما كان مناضلا وطنيا وأديبا ثوريا، يدعو الي حياة أفضل لطبقات الشعب الفقيرة وظل لمدة نصف قرن من الزمان ينادي بالحرية والاستقلال ويدافع عن الفقراء والكادحين من خلال كتابته للأشكال الأدبية الرائعة التي تتسم بروح الفكاهه والنكات والسخرية والنقد اللاذع المستمر لأوضاع المجتمع وهذا ما عرضه للاضطهاد من الاستعمار والسلطات الحاكمة. ولد الشاعر بيرم التونسي يوم 4 مارس 1893 بمدينة الاسكندرية وسمي بالتونسي لأن جده لأبيه كان تونسيا قدم الي مصر عام 1833 ، وقد عاش طفولته في حي الأنفوشي بالسياله ، وتوفي والده وهو في الرابعة عشرة من عمره فانقطع عن دراسته بالمعهد الديني وعمل بدكان والده حيث كان يعمل بتجارة الحرير ولكنه خرج من هذه التجارة صفر اليدين ، وحتي يستطيع الانفاق علي والدته عمل بيرم صبيا بمحل بقاله ولكن عشقه لسماع المواويل في الموالد حال دون استمراره في العمل حيث طرده صاحب المحل ، وفي تلك الأثناء يتعرف بيرم علي أحد البناءين الذي كان يحكي له بعض الطقاطيق والأدوارفيتعلق قلبه بها وهذا ما يجعله يقبل علي شراء كتب الأساطير الشعبية مثل " ألف ليله وليله وأبو زيد الهلالي" وكانت هذه الكتب تحتوي علي أبيات من الشعر ووقعت في يد الصبي أبيات للشاعر ابن الرومي التي اعتبرها من أمتع ما قرأ، ودائما ما كان يفشل بيرم في مشروعاته الإقتصادية ويفلس بعدها بسبب انفاقه كل ما يملك من مال علي شراء كتب والدواوين الشعرية ، حيث كان يقرأ دواوين الشعر والزجل ومقامات الحريري والهمزاني . وفي عام 1918 وفي أثناء اللحظات القاسية والثقيلة التي عاشتها مصر في الحرب العالمية الأولي ، نظم بيرم التونسي قصيدته " بائع الفجل" والتي يسخر فيها من المجلس البلدي الذي كان يغالي في فرض الضرائب علي أبناء الشعب وفي عام 1919 قامت الثورة المصرية والتحم بيرم بالشعب المصري وأصبح لسانه الصادق الجريء وصار قلمه طلقات ناريه في وجه الظلم والفساد ، وفي تلك الأثناء أصدر بيرم مجلة المسلة وعطلتها السلطات بعد ستة أعداد فقط ، ثم أنشأ صحيفة " الخازوق" التي أوقفتها السلطات أيضا بعد عددين ، ثم صدر الأمر بنفي بيرم وكان ذلك ليلة عيد الأضحي ، ونفذ الأمر صباح يوم العيد ، وفي المنفي بفرنسا يذكر عيد الأضحي ويتذكر مصر واليوم الذي نفي فيه فيسجل حنينه في قصيدة حزينة يقول فيها : يوم الدبايح كان آخر مواعيدك وقفت لك فرحان وانصب رايات عيدك وافرش لك الريحان واسمع زغاريدك زعق غراب البين فصلت أكفاني وقد أخذ بيرم علي عاتقه مهمة الهجوم علي الإستعمار والتعبير عن الارادة الوطنية في مواجهة الملك والاستعمار وأبدع فقال ، ولما هدمنا بمصر الملوك ، جابوك الانجليز يافؤاد قعدوك تمثل علي العرش دور الملوك وفين يلقو مجرم زيك ودون ، وخلوك تخالط بنات البلاد علي شرط تقطع رقاب العباد وتنسي زمان وقفتك يا فؤاد علي البنك تشحت شوية زتون وبسبب كتابة بيرم لهذه القصيدة شرده الملك فؤاد لمدة عشرين عاما حتي كرمته ثورة يوليو وأعطته أوراق جنسيته المصرية التي أنكرها عليه العصر الملكي ، حيث كرمه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ومنحه جائزة الدولة التقديرية وبعدها حصل علي الجنسية. وفي قضية علاقة المثقف بالسلطة لم ينس بيرم الأدباء الذين تعلقوا بأزيال السلطة ومؤسساتها فهؤلاء في نظر بيرم ليسوا سوي ادعياء لأن الفن يرتبط بالحرية ولا يمكن أن يتحول الي وظيفة رسمية فكان يري أن الفنان اذا تحول الي موظف رسمي فانه لن يبدع أبدا بل سيتحول الي بوق من أبواق السلطة التي تدفع له راتبه الشهري وفي قصيدة بعنوان أديب ميري وضح بيرم موقفه من هؤلاء بأسلوبه الساخر اللاذع.. ولم يكتف بيرم بأشعاره وأزجاله فقط بل قدم للأغنية العربية كنوزا من الأعمال التي اتسمت بالشعبية الجارفة حيث غنت له أم كلثوم ثلاثين أغنية ، أشهرها " أنا في انتظارك، أهل الهوي ، الأوله في الغرام، الورد جميل ، غني لي شوي شوي" كما ألف بيرم لصديقه سيد درويش عدة أوبرات أشهرها " أوبرا شهرزاد ، الباروكة ، كما ألف العديد من الأغاني والأدوار التي كتب لها الخلود. وبعد معاناة شديدة مع مرض الربو توفي بيرم التونسي في 5 يناير عن عمر يناهز 68 عاما. Comment *