بعد أن فرغنا من بيان أحوال الاتجاهات الثلاثة المناوئة للمنهج العقلي، والإشارة إلى أوجه الخلل والقصور في مناهجهم المعرفية التي اعتمدوها، وبنوا عليها مذاهبهم الفكرية المختلفة، نعود إلى طريقة الحكماء والعقلاء الذين اعتمدوا المنهج العقلي البرهاني الصحيح في التعرف على الواقع، وتشييد صرح المعرفة الإنسانية، على المستويين النظري والعملي على أساس متين ورصين، وسوف نتعرض لبيان معالم هذا الصرح المعرفي بنحو كلي مختصر يناسب مقام البحث، فنقول: أولا رؤيتهم الكونية 1 المبدأ الإلهي للكون: فقد أثبت الحكماء بالبراهين القطعية وجود مبدأ إلهي حكيم وعادل، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وجامع لجميع الكمالات الوجودية. خلق هذا العالم بلطفه وعنايته على أحسن صورة ممكنة، وهو غني عنه. 2 العالم: أثبت الحكماء أن صورة عالم الوجود على نحوين، عالم الغيب المجرد عن المادة، وهو عالم ما وراء الطبيعة، وعالم الشهادة الذي هو عالمنا هذا، وهو عالم الطبيعة والموجودات المادية، وأن عالم الغيب هو الحاكم على عالم المادة، والمدبر له بإذن ربه. 3 الإنسان: أثبت الحكماء أيضاببراهين متعددة، أن الإنسان نسخة مصغرة من عالم الوجود، فهو مركب من بدن مادي عنصري وروح عاقلة مجردة عن المادة في ذاتها وإن تعلقت بالبدن في أفعالها وأن الروح تمثل حقيقة الإنسان الباقية بعد الموت، وأن البدن ليس إلا وسيلة ومركب لاستكمال الروح. وقد اقتضت العناية الإلهية أن يستكمل الإنسان بأفعاله الاختيارية، وروح الإنسان تستكمل عن طريق التعليم، بتحصيل العلوم والمعارف الحقيقية الصادقة، والتخلص من الاعتقادات والمعارف الوهمية الباطلة، وتستكمل أيضا عن طريق التربية والتأديب بالتحلي بالفضائل الأخلاقية السامية، والتجرد عن الرذائل الأخلاقية الفاسدة. فكمال الإنسان وحياته الحقيقية بالتربية والتعليم. 4 المعاد: بعد ثبوت تجرد النفس وبقائها بعد الموت، فإن للإنسان عودة إلى بارئه ليحاسبه على أعماله في الدنيا، ليثيب المحسن ويعاقب المسيء؛ لأن هذا هو مقتضى الحكمة والعدالة الإلهية. ويعتقد الحكماء بأن الجزاء من لوازم العمل، فالاعتقادات الحقة والفضائل الأخلاقية الحاصلة بالأعمال الصالحة تقتضى الثواب، كما يقتضي الدواء الصحة والشفاء، والاعتقادات الباطلة والرذائل الأخلاقية المكتسبة بالأعمال الفاسدة تقتضي العقاب، كما تقتضى الجراثيم الأمراض. ثانيا نظريتهم في الأخلاق يعتقد الحكماء كما تبين في علم النفس الفلسفي أن هناك في البدن غريزتين حيوانيتين لحفظ البدن، وهما الشهوة والغضب، فالشهوة لجلب النفع للبدن، والغضب لدفع الضرر عنه، وقد وضعهما الباري تعالى بعنايته وحكمته تحت سلطة العقل، ليتحكم فيهما ويوجههما بالنحو الذي لا ينافي الكمال الروحي والمعنوي للإنسان. ولذلك يعتقد الحكماء بأن القيم والفضائل الأخلاقية إنما هي وسط بين الإفراط والتفريط، فالشجاعة مثلا وسط بين الجبن والتهور، وكذلك سائر القيم الأخلاقية. وأن غاية الكمال الأخلاقي للإنسان هو الوصول إلى حالة الوسطية والاعتدال قي جميع أحواله، وهو المسمى عندهم بملكة العدالة والاستقامة. ثالثا نظريتهم الاجتماعية يرى الحكماء أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، بمعنى أن كماله يتحقق ويتم بالاجتماع، لا بالعزلة والانطواء. وأن الهدف من دخوله للمجتمع هو الاستكمال المعنوي والمادي معا، وليس الاستكمال المادي فقط، كما هو في المجتمعات الغربية، بل الاستكمال المعنوي عندهم مقدم على الاستكمال المادي؛ لأن ذلك يطابق رؤيتهم الكونية عن الإنسان في كونه مركبا من بدن وروح، وأن روحه تمثل حقيقته الباقية. رابعا نظريتهم السياسية إن السياسة قد يعرفها البعض بمعنى السلطة والحكم، وبالتالي يكون العمل السياسي هو الذي يؤدي بنا إلى الوصول إلى السلطة، والحفاظ عليها بعد الوصول إليها. وهذا المعنى للأسف هو الشائع بين الساسة والمعروف عند الناس، وبالتالي يصبح مقترنا وملازما للميكافيللية الانتهازية والبراجماتية النفعية، التي لا تراعي إلا مصالح الفئة الحاكمة. والمعنى الثاني وهو الصحيح عند الحكماء هو إدارة وتدبير المجتمع بما يؤمن مصالح أفراده جميعا، فليس الهدف من تشكيل الحكومة هو التنعم بالسلطة، والاستبداد بها، بل إقامة العدالة الاجتماعية، ومساعدة الناس على الوصول إلى كمالاتهم المعنوية والمادية، والتي من أجلها قد دخلوا إلى المجتمع، وأقاموا نظامهم الاجتماعي والسياسي. والغرض من ذلك كله هو بيان أهمية المنهج المعرفي الذي يشكل المنطلق لنا في بناء رؤيتنا الكونية وأيديولوجيتنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، حتى يتم تحرير محل النزاع بنحو دقيق وصحيح من جهة، وتمييز الطريق الصحيح عن غيره من جهة أخرى.