نذكر اليوم الاتجاه الثالث المخالف للاتجاه العقلي، ومخالف للحكماء وهو: الاتجاه الثالث وهو الاتجاه الصوفي الذوقي، الذي يعتمد على القلب والذوق الوجداني الباطني في كشف الواقع، بعيدا عن التعقل والتفكر، وهو بطبيعة الحال بعد ابتعاده عن الموازين العقلية، يتبّنى رؤية كونية روحانية دينية مفرطة عن الإنسان والعالم، وأيديولوجية انعزالية على المستوى الأخلاقي والسياسي. ومن العواقب السيئة لهذا الاتجاه: أولا شيوع البدع والخرافات في الاعتقادات. ثانيا تفشي ظاهرة الدجل والاحتيال والادعاءات الكاذبة للمقامات الروحية. ثالثا غلبة الانعزال والانطواء السلبي، وإسقاط المسئولية الاجتماعية. رابعا تخدير الشعوب، ومنعها من الثورة والنهوض في وجهة الأنظمة السياسية الفاسدة. أما بالنسبة إلى هذا الاتجاه الذي اعتمد على القلب والذوق الوجداني، كأداة معرفية وحيدة وفريدة وتنكر للعقل، واعتبره حجابا عن الوصول إلى الحقيقة مع احترامنا الشديد أيضا للحالات المعنوية الإيمانية والعرفانية للمؤمنين الصادقين فإننا ننبّهه على أن الميزان المعرفي ينبغي أن يكون ميزانا علميا موضوعيا مشتركا بين الناس، وليس ميزانا ذوقيا شخصيا يخضع للأمزجة والمشاعر والأحاسيس الوجدانية، والتي غالبا ما تكون مجهولة المنشأ والهوية، حتى بالنسبة للشخص نفسه. ولا يخفى على العاقل أن فتح باب الذوق والوجد والتأويلات الباطنية الغامضة كطريق وحيد أو أساسي للمعرفة، يؤدي إلى فتح الباب على مصراعيه أمام دخول الخرافات العقائدية، ورواج سوق الدجل والشعوذة، وفقدان التوازن العلمي والمعرفي بالكلية، والدخول بالإنسان والمجتمع البشري في نفق مظلم لانهاية له. وهذه الاتجاهات الثلاثة كانت ومازالت تلقى كل الدعم من الأنظمة السياسية الجائرة والفاسدة في الشرق والغرب، حيث تقاطعت مع مصالحها غير المشروعة، فعملت على تسخيرها وتوجيهها بأساليب متعددة، بما يخدم أهدافها المشؤومة. وللإنسان العاقل أن ينظر بعقله إلى ما يدور حوله في هذا العالم ليكتشف هذه الحقيقة المرة بكل سهولة، وهو أن كل ما نعانيه من مشاكل وأزمات وتخلف، إنما يرجع إلى هذه الاتجاهات الثلاثة، ومن يقف ورائها من الأنظمة السياسية الفاسدة. ومن هنا يظهر لنا أن أساس المشاكل التي تواجهنا وتواجه هذه الاتجاهات الفكرية، يكمن في منهجها المعرفي الذي اعتمدت عليه في بناء رؤيتها الكونية النظرية وأيديولوجيتها العملية المتفرعة عليها في الأخلاق والسياسة، والتي انعكست بدورها على ممارساتها العملية داخل المجتمع. وما لم تحل هذه المشاكل من جذورها فلن يجدي أي حوار فكري أو أيديولوجي مع هذه المدارس والاتجاهات المتباينة، وستظل تنخر في عظام الأمة وتثير الفتن والصراعات تحت عناوين متعددة.