إذا أراد الإنسان العاقل أن يبني رؤيته الكونية حول الإنسان والعالم والمبدأ والمعاد، أو أراد أن يتبنى أي معايير أخلاقية أو نظرية اجتماعية أو رؤية سياسية معينة، فمن الطبيعي جدا أن يستند في اعتقاده أو رأيه إلى دليل منطقي واقعي معتبر،لا إلى أهوائه الشخصية أو استحساناته الذوقية، ولا إلى أعرافه وعاداته وتقاليده الاجتماعية النسبية المتغيرة كما يفعل أكثر الناس للأسف لأن الاستناد إلى مثل هذه الأمور الشخصية أو الذوقية أو النسبية المتغيرة، هو السبب الرئيس في انحرافنا الفكِري وضياع الحقيقة وابتعادنا عن الواقع الموضوعي، والعامل الأساسي في حصول الاختلافات الدينية والمذهبية، ووقوع النزاع والتناحر الأيديولوجي، الذي يهيئ الأرضية بدوره لإشعال الفتن والصراعات الاجتماعية والسياسية التي تهدد الأمن القومي والاجتماعي. والغريب أن كل هؤلاء الذين ينحون هذا المنحى غير المنطقي يعتمدون على أدلة ومباني يعتبرونها مفروغة الصحة، بل غير قابلة للنقاش، مع كونها في الواقع غير واضحة ولا مُبيّنة بنحو منطقي، ويريدون أن يبنوا عليها كل آراءهم واعتقاداتهم، مع أن كلامنا معهم هو في المبنى والأساس، لا في البناء والأثاث، فيكونون كمن بنى قصرا على رمال أو بيتا على شاطئ البحر. ومن أجل ذلك فقد نبّهنا في أول كلامنا على ضرورة تلمس الطريق من بدايته، والتأكيد على أهمية معرفة المنطلق الصحيح، والأساس الأول الذي سنبني عليه رؤيتنا الكونية النظرية وأيديولوجيتنا العملية؛ لكي نشيد صرح المعرفة على أساس متين وراسخ. والآن نعود مرة أخرى لنسأل أنفسنا عن هذا الأساس المنطقي الذي ينبغي أن ننطلق منه، ونبني عليه، فنقول: لو رجعنا إلى أنفسنا وتأملناها جيدا لوجدنا أننا نشعر بأن لنا ذاتا موجودة وحية نشير إليها بأنا ،هذه الذات لها أفعالاً وانفعالات متعددة، حيث تدرك الأشياء من حولها بأنحاء مختلفة، فتارة تحس بها، وتارة تتخيلها، وأخرى تتعقلها وتفكر فيها، وتارة تفرح بها وأخرى تحزن عليها، وهي تدرك وتشعر بكل ذلك بنحو يقيني بسيط ومباشر لا يساوره شك ولا شبهة. وهي مع كل إدراكاتها وإحساساتها الوجدانية البسيطة، تدرك وتعقل شيئا آخر لا يقل يقينا عن إدراكاتها تلك،وهو أن وجود ذاتها وإدراكاتها لها، لا يجتمع مع عدم وجودها لها، حيث يستحيل أن تكون موجودة وغير موجودة، أو تدرك الأشياء ولا تدركها في نفس الوقت، أو تكون سعيدة وغير سعيدة معا، وهذه القضية التي يدركها العقل بذاته يسميها المناطقة والحكماء بامتناع اجتماع النقيضين، وهى أولى الأوائل وأبده البديهيات وأساس كل علم. أما كونها أولى الأوائل وأبده البديهيات،فلعدم إمكان إنكارها أو تكذيبها، حيث إن إنكارها يستلزم إثباتها، وتكذيبها يستلزم تصديقها؛ لأن نفس الإنكار أو التكذيب لا يجتمع مع عدم الإنكار أو عدم التكذيب، حيث إن المنكر لها يقول إنني منكر ولا يمكن أن أكون غير منكر في نفس الوقت لاستلزام التناقض، وهذا هو نفس إثبات القضية التي أنكرها. وأما كونها أساس العلم؛ فلأن الذي يعتقد بشيء لا يمكن في نفس الوقت أن يعتقد بنقيضه ،فالذي يعتقد بأن الأرض كروية مثلا لا يمكن أن يعتقد بأنها غير كروية، وإلا لانتفى اعتقاده من الأصل، وبالتالي لا يمكن أن يحصل لنا أي علم أو اعتقاد إلا بعد الاعتقاد والتسليم بهذه القضية الذاتية الصدق والممتنعة الكذب. وهذا الأصل العلمي الأول هو الذي نكتشف من خلاله صدق بقية الأصول العقلية البديهية، ككون الكل أعظم من الجزء، وأن الشيء يمتنع سلبه عن ذاته، وأن الحوادث لها أسباب تخرجها من العدم إلى الوجود، وغيرها من الأصول والمبادئ العقلية البديهية، حيث يستلزم تكذيب هذه القضايا اجتماع النقيضين. وهذه المبادئ البديهية هي التي يبتني عليها الدليل العقلي المنطقي المعتبر، والذي يسميه الحكماء بالدليل العقلي البرهاني، وهو الذي يؤمن لنا اليقين الصادق المطابق للواقع. أما أنه يؤمن لنا اليقين؛ فلأنه ينطلق من قضايا بديهية واضحة في نفسها، وأما أنه يؤمن لنا الصدق؛ فلأنه يبتني على مبادئ بديهية ذاتية الصدق، بمعنى كون صدقها من ذاتها، لا كالتي يصدق بها عوام الناس لشهرتها بينهم مثلا أو لنقل الثقات عندهم لها، أو غير ذلك من الطرق غير المعتبرة عقليا، والتي تكون في معرض الخطأ والتضليل. ومن هنا يتبين لنا أن هذه القضايا البديهية العقلية الموضوعية المشتركة بين جميع الناس،هي الأساس الأول الذي ينبغي على العاقل أن ينطلق منه ويبني عليه، وأن الدليل العقلي البرهاني المبتني على هذه القضايا البديهية هو الطريق اليقيني الآمن والوحيد الذي ينبغي أن نبني رؤيتنا الكونية على ضوئه، حيث يقودنا بجدارة إلى الاعتقاد اليقيني الصادق، بنحو علمي موضوعي، بعيدا عن الأهواء الشخصية والضغوط والتأثيرات الاجتماعية والمذهبية التي يخضع لها معظم الناس، وتجعلهم في معرض الانحراف الفكري.