بعد مرور بضعة أشهر علي انتخابات الرئاسة الأولي في عمر ثورة يناير لابد وأن نتذكر اليوم ما سبق وأثمرت عنه أدق وأصدق محاولات التنبؤ بنتائج المرحلة الأولي من انتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة من احتمالات رئيسية ثلاثة لا تخرج عن: 1- أن الإعادة بين صباحي وأي مرشح آخر محسومة لصالح صباحي. 2- أن الإعادة بين شفيق وأي مرشح آخر محسومة للمرشح الآخر. 3- أن الإعادة بين مرسي وأي مرشح مدني محسومة لصالح المرشح المدني، وليست لديه فرصة للنجاح سوي في مواجهة مرشح الفلول (الاحتمال السابق) تبدو هذه الاحتمالات بمعطيات الواقع -وقتها- جامعة مانعة، كما تحتفظ بمكانتها كنقطة البداية في تحليل معطيات اليوم بعد أن أكدتها النتائج الرسمية من ناحية -رغم كل ما فيها من تجاوزات- إذ انحصرت المنافسة بين الأسماء الثلاثة أبطال الاحتمالات الرئيسية المذكورة ؛ وأنه ما غاب عن المراقبين والراصدين والمحللين هنا احتمال الإعادة -الذي بات حقيقة- بين شفيق ومرسي وقد وردت نتيجته المتوقعة بالاحتمال الثاني، بمعني أن مرشح الفلول ضد أي مرشح آخر محسومة للآخر؛ وهذا ما يقبل تسمية (الصدفة) تعبيرا عن الظروف التي أتت بمرسي رئيسا، ومن ناحية أخري فإن محددات خريطة القوي السياسية -التي تتبلور اليوم وكأن الحياة السياسية المصرية تمر بمخاض ما- مرتبطة بمسار و توجه القوي الثلاثة الرئيسية التي تنافست علي الرئاسة، الثوار والفلول والإسلاميين. الذي غاب عن غالبية المحللين -وليس جميعهم طبعا- هو ماذا بعد؟ والذي غاب عن مرسي وجماعته هو أن هذه النتائج لا تمكنهم من ميراث الفلول في الاستئثار بالسلطة، إذ لم يكن مرسي المرشح - وقتها- رئيسا محتملا بدرجة كبيرة ،وعدد الأصوات التي حصل عليها في المرحلة الأولي ليست بعيدة الفارق عن زميله في الإعادة الفلولي شفيق أو مرشح القوي الثورية الأبرز صباحي، كما أن نجاحه في الإعادة متغلبا علي مرشح الفلول لم يكن فوزا ساحقا كما هو المتوقع لو كان بطل الإعادة ضد الفلول مرشح مدني. هذا ما يفسر الحقيقتين الأبرز في منهجية الإخوان اليوم: أولي هاتين الحقيقتين هي حملة التشويه التي يتعرض لها رموز التيار المدني وعلي رأسهم حمدين صباحي المرشح المنافس الأبرز بين هؤلاء في الانتخابات التي كانت بداية تمايز جمهور المصريين إلي فريقين كبيرين مدني وإسلامي، وبعد آن ذهب رموز الفلول إلي مهب الريح بغير رجعة فلم يعد لدي الإخوان خوف علي قصر الرئاسة سوي من هذه الرموز الثلاثة تحديدا صباحي والبرادعي و موسي علي الترتيب والأخوف هو تحالفهم. أما الحقيقة الثانية فهي الجانب الآخر من عملة الخوف علي القصر وهي شهوة السلطة التي تعتبر الدافع الرئيسي وراء جميع قرارات الرئاسة حتي الآن والمؤكد أنها من إملاء مكتب الإرشاد بما لا يدع مجالا للشك. وليس أدل علي هذا من أن إخوان ما بعد انتخابات الرئاسة (إخوان عهد السلطة) لو أدركوا سبيلا آخر بخلاف الهرولة وراء شهوة السلطة هذه؛ لكانوا وبالضرورة أدركوا أنهم لم يحققوا بعد الرضا الجماهيري المنشود أو علي الأقل المتوقع أن ينشده أي رئيس منتخب يسعي لتثبيت أقدامه تهيئةً لتنفيذ برنامجه في أجواء مناسبة. بالعكس وصل العناد بين الرئيس والمعارضة إلي الاستعانة بأهله وعشيرته للتعدي علي اعتصاماتهم السلمية -أي المعارضة- وجرهم لاشتباكات قاسية أوشكت علي التحول إلي حرب أهلية. وقد أثبتت نصف نتائج الاستفتاء حتي الآن أن احتمال حصول المعارضة علي الأغلبية في النتيجة النهائية كبير أو علي الأقل وارد؛ الأمر الذي يضرب خطاب إخوان عهد السلطة في مقتل خاصة ما روجوه إبان المرحلة قبيل الاستفتاء من تقليلهم من شأن المعارضة ،وتبريرهم للاحتجاجات الجماهيرية بأنها أطماع أفراد في السلطة ،ومحاولة النخبة عرقلة سير الحياة السياسية ،ووقوفهم ضد إرادة الجماهير ،وعدم احترامهم لشرعية الصندوق؛ كل هذا بات سرابا خدع عيون الإخوان وحدهم. كما بات شعار الشرعية والشريعة هو الوهم الكبير ؛فالشرعية مهددة بقوة نصف الشعب ولو أقل قليلا والشريعة لم تكن ولن تكون محل خلاف، وإن تجلي الخلاف حول تفسيرها بين ما يمكن تسميته بفهم فقه الدولة في الإسلام بين الديمقراطية والثيوقراطية أو بين الدولة المدنية ودولة الفقيه أو قل المرشد أو الداعية؛ لا فرق. وبعد نصف استفتاء بالأمس لا يفوتنا هذه المرة أن نتساءل ماذا بعد؟ هل يدرك الإخوان أن رصيدهم الجماهيري لا يزال ثابتا علي الأقل إن لم يتناقص؟ وأن مؤيدي الرئيس أقلية وإن غلبوا وحصل دستورهم علي الأغلبية القليلة ،كما هي نتائج المرحلة الأولي؟ وأن هذه النتائج لا تثبت أقدامه ولا جماعته علي كرسي الرئاسة أو أركان السلطة في مصر؟ ربما يدركون و ربما لا. علي جانب آخر -وأيضاً بصدد بحث ماذا بعد- هل الاستفتاء هو الخطوة الأولي في تحالف القوي المدنية الذي انطلقت شرارته بجبهة الإنقاذ الوطني؟ وكيف سيبني قواعده الشعبية من خلال تنظيم يمكنه أن يجمع بين عناصر ثلاثة أساسية هي الانتشار والالتزام والقدرة علي الحشد؟ وما هو الشكل المناسب لهذا التنظيم بحيث يراعي تكوينه المتعدد والمتنوع؟ وما مدي امتلاك هذه النخبة للقدرة علي التوافق أولا وقبل بحث مدي امتلاكها لأدوات هذا البناء من أموال ،وخطط علمية ،و كوادر كافية من حيث العدد والكفاءة؟ كل هذه العقبات يمكن تذليلها من خلال معادلة الجمع بين الوعي والإخلاص؛ وتبدو النتيجة محسومة لصالح التيار المدني في حال تذليل هذا العقبات ؛بما يكشف عن واقع الضعف التنظيمي في الجماعة التي تمتلك التنظيم الوحيد حتي الآن؛ وما يبدو قويا إلا لكونه وحيدا، ويتجلى ضعفه بارزا في نجاحه الهزيل في جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة الأخيرة في مواجهة بقايا نظام سقط؛ وأكدت هذه الحقيقة نصف نتائج الاستفتاء بالأمس في مواجهة أفراد النخبة غير المنظمة برغم جمعها بين أحزاب -فعلا- متعددة ومتنوعة لكنها ضعيفة التكوين برغم تجاربها ومحاولات البناء التنظيمي المتكررة. ولكن الحق أن لحمدين صباحي من بين رموز المعارضة خصوصية شديدة فيما يتعلق بالتجارب التنظيمية إذ يتفرد بينهم -أي رموز المعارضة- بميزتين مهمتين: فهو من ناحية أكثرهم مشاركة في تنظيمات سياسية كما وكيفا ومن ناحية أخري يعتبر تاريخيا رمزا من رموز الطفرة الحديثة المعبرة عن تطورها -التنظيمات السياسية- سواء من حيث الشكل أو الدور في هذه المرحلة من تاريخ مصر، بمعني انتقالها إلي طور جديد يتخذ شكل التحالفات والإئتلافات منذ ما قبل وفي أثناء وبعد يناير 2011، بداية من تبنيه لفكرة الوطنية الجامعة في البرنامج السياسي لحزب الكرامة عام 1998 وحتي تطبيقها بالمشاركة في تحالفات كفاية والجمعية المصرية للتغيير وغيرهما من قبل يناير ثم جبهة الإنقاذ الوطني مؤخرا مرورا بتجربة حملة انتخابية ولدت قبل الثورة تحت اسم (حمدين المناضل) لدعم حقه وغيرة من المرشحين المستقلين في الترشح، هذا بالإشارة إلي مطلبها في إسقاط المواد 76 و 77 و 88 من التعديلات الدستورية الصادرة عام 2005 وحتي انتهت إلي دور بارز في النضال لإسقاط دستور الإخوان في 2012 تحت اسم (حمدين الزعيم) بمشاركة شباب حزب الدستور وبحضور إعلامي طاغي لشخصيات عامة ومشاهير عددهم يزيد عن سبعين في مجلس أمناء التيار الشعبي المصري، وإن لم تنجح تحت اسم (حمدين المرشح) أن تلعب (كحملة) دورا فاعلا في انتخابات الرئاسة، وهنا التفسير واضح إذ أن تجربة حمدين التاريخية تؤكد نجاحة جماهيريا دائماً (كمناضل وزعيم) وفشله المعتاد في بناء تنظيم لو امتلكه (كمرشح) ما حكم الإخوان مصر، فكل تجارب حمدين المؤسسية يعلو بها منفردا أو علي الأقل يلعب الدور الرئيسي في بنائها ثم يصيبها فشل التنظيم بالشلل قبيل الخطوات الأخيرة نحو تحقيق أهدافها، حتي في الاستفتاء الذي انقضي نصفه وليس فقط في انتخابات الرئاسة؛ لو يمتلك حمدين مقومات التنظيم لتغيرت النتائج بلا جدال. وبرغم أن هذا التاريخ الطويل لحمدين في التنظيمات السياسية قد يمثل مطعنا عليه وليس ميزة في صالحه ومخيبا للآمال في عيون بعض المراقبين الذين يرفعون شعار الواقعية والموضوعية، فإنه يبدو في عيون محبيه وأنصاره وأبناء مدرسته خصوصا الشباب وذوي الحماسة منهم هو الأمل وهو الأقرب إلي النجاح في بناء تنظيم يتخلص من عيوب الماضي ويشارك بقوة في صياغة المستقبل من خلال دولة مدنية حديثة تحت شعار الوطنية المصرية الجامعة، يؤكد قابلية أملهم هذا للتحقق النظر إليه بعيون التيار الإسلامي إذ يرونه -من منظورهم- هو الرجل الأخطر والعقبة الأكبر أمام مشروع الدولة الدينية والاستئثار بالسلطة تحت شعار الشرعية والشريعة. وكما أنه لا عجب من انحياز الفلول (القوي الثالثة وقت انتخابات الرئاسة) جميعهم بلا استثناء للتيار الثوري المدني بقيادة جبهة الإنقاذ في معركة الدستور بمنطق استحالة انضمامهم للسلطة الإقصائية الجديدة مما يجعل التيار الثوري المدني بالنسبة لهم -أي للفلول- فرض لا اختيار ، فإنه أيضاً لا عجب من أن يخرج من صفوف التيار الإسلامي أفواج غير قليلة من شبابه الواعي لينضموا للتيار المدني بعد التجربة المريرة التي يمرون بها الآن إذ يظهر لهم التناقض بين ما آمنوا به من أفكار وما يمارسه قياداتهم في الواقع ، خاصة من يشارك منهم في السلطة. في العموم إذن معطيات الواقع تشير إلي نتيجة وحيدة في الغالب يمكن تلخيصها في أن مستقبل مصر أيا كانت نتيجة الاستفتاء ب (نعم) أو (لا) تحدده خريطة جديدة للقوي السياسية تتشكل الآن ، وأول ما تؤكده معالم تكوينها الجامع للمعارضة علي تعددها هو أن مرسي نصف رئيس ، ليس المقصود هنا أرقام النتائج إذ الذين انتخبوه أقل بكثير من نصف المصريين ،لكنه نصف رئيس هكذا يبدو في مشهد الاستقطاب المدني الإسلامي الذي يتجلي في نتائج الاستفتاء بالمناصفة شبه التامة ،ونصف رئيس بحكم مستقبله وجماعته في السلطة المرهون بقدرتهم علي استيعاب خريطة القوي السياسية الجديدة. Comment *