هذا ما قالته أمي عندما أرادت أن تنهي الكلام الذي تناثرت شظاياه فأصابتنا باختلاف ألهانا عن (العيش البتاو) والجبن بالطماطم المنتظرين في الطبق الخوص.. تناولنا الطعام في صمت خاصة عندما لمسنا في صوت أمي إحساسا مخالفا عن سير الحوار.. رأيتها تنظر نحونا نظرة اخترقتنا وكأنها تقول إنه أخوكم الكبير يا أوساخ.. ثم لملمت البقايا وخلطتها في صينية كبيرة ووضعت عليها بعضا من الذرة المدشوشة لتضع تلك الخلطة للطيور ثم عادت صامتة.. انزعجت كثيرا ونظرت بدوري إلى إخوتي الذين جرجروني في الحديث فقد أخذ أحدنا يحكي عما سمعه عن أخينا (هيكل) حيث كان (عبد ربه الرغاي) متوسطا مجموعة من الرجال وأخذ يتفتف كعادته ويؤكد أن (هيكل) ابن كلب ويستحق ما جرى له ولم ينتظر أن يسأله أحد عن السبب حيث أشار لهم أن يقتربوا وتعمد أن يخفض صوته إثارة لفضولهم قائلا: - ربنا حليم ستار وانخفض صوته بطريقة أكثر إثارة وهو يحكي عن عشق (هيكل) للبنت (سنية) التي وقع في غرامها جني من تحت الأرض ( اللهم اجعل كلامنا خفيف عليهم) ومع ذلك ركب رأسه وظل يناغشها حتى وقعت في غرامه فغار منه الجني لذلك حرض عليه جني آخر يبدو أنه ( لا مؤاخذة ) شاذ ليلبسه فيظل راكبا فوق ظهره وإذا أراد أن يستريح فجلوسه فوق كتفيه حتى انحني ظهره بهذا الشكل وهو في عز شبابه.. أراد (سليمان) أن يراجع (عبد ربه) فيما قاله أو يسخر من كلامه عن الجن والعفاريت لكن الأصوات المطالبة بالسكوت كانت أعلى خوفا منهم (حابس حابس) ثم تركهم عبد ربه مؤكدا أن (جتته مش خالصة) ولعن الشيطان وكل من كان له ¬ الذي سحبه من لسانه... أمي كانت صامتة ومستسلمة لهذه الخناجر التي تحز في جسدها وهي تنظر نحو حوش البهائم ثم إلى الشباك الذي كان مواربا .... الأخ الذي جاء دوره في الكلام نفخ نفخة لها مغزاها وهو يحكي عن أخيه مستغفرا الله العظيم من كل ذنب عظيم حيث فسر (علي بن أم علي) ابن أوسخ خلق الله ¬ لعدة رجال عند العودة بالبهائم من الغيط أن الانحناء في ظهر (هيكل) يعود إلى أنه حاول ذات ليلة صيفية غير مقمرة أن يسرق بلحا من النخلة (الحياني) التي بلحها أحلى من العسل والتي يملكها الشيخ (سيد) وأول ما قال نخلة الشيخ سيد انفتحت الأفواه ومؤكدة أنه (اتجنن في مخه) فأكمل (علي) بكلام يعرفونه عن (عدية ياسين) التي قرأها (سيد) علي نخله ..المهم أن (هيكل) عندما طلع النخلة في أمان الله ووصل إلي العرجون وأمسك جريدة بيده اليمني ومد اليسرى نحو العرجون وجد أنه يمسك أشياء طرية فجذبها فكانت (والعياذ بالله) رءوس ثعابين فصرخ صرخة عالية وألقى بنفسه في المسقة فسقط علي ظهره فحدث ما حدث وانحنى ظهره ببركة الشيخ (سيد ) ازداد صمت أمي وشرودها وهي تبلل العيش البتاو بالماء وتدهس الطماطم في الجبن ولمحت ‘دمعة' تسقط فوق جلبابها الأسود فعدلت عما كنت أفكر فيه من الرد علي هذا الكذب خاصة أن الشيخ (سيد) لا علاقة له بالبركة فهو (بتاع نسوان) وقد لمحته بعيني اللتين سيأكلهما الدود ¬ وأنا راكب الجمل ¬ ملفوفا في ملاءة قديمة هو و(سنية العايقة) فأوقفت الجمل لأتفرج من فتحة الشباك العالي فرأيت اهتزازات غريبة وسمعتهما يصدران أصواتا منتظمة مع هذه الاهتزازات لكن الجمل (ضرب القلة) فاتنبه الشيخ (سيد ) ونظر في هلع فرأى عيني المشرعتين نحوه فقال بصوت مرتعد نصف مرتفع موجها حديثه للجني ابن الجنية (اطلع يا ابن الجنية لا تؤذني ولا أؤذيك) ثم بص نحوي بقرف ولعنني خوفا أن يلبسني الجني وهو خارج منها ليهرب من فتحة الشباك.. أمي التي اكتفت بنظراتها نحونا ذهبت إلي آخر البيت حيث اللبن الذي راب ويحتاج للخض وظلت تخض القربة في ضربات متتابعة. مازلنا نتناول الطعام غير أن اللقمة وقفت في حلقي عندما ارتسمت صورة أخي الأكبر (هيكل) الذي تميز بصحة عال العال أهلته أن يعمل في أراضي الناس بالأجرة لكنه كان محبا للكلام والحكايات التي يسيل لها لعاب الشباب في قريتنا التي عزلها القدر والجغرافيا معا عن الحياة.. إذا جلس هيكل في مجلس فلابد من حكاية عن النسوان فهو دائما مرغوب منهن خاصة نساء البندر التي تستطيع الواحدة منهن أن (توديك البحر وتجيبك عطشان) ففي ليلة من الليالي ذهبت إليه في عشة (محمود) كي أناديه فوجدته يشرب الشاي والجوزة ويتكلم والكل يستمع عن قيامه بضرب مجموعة عيال كانوا يعاكسون هانم (تحل من علي حبل المشنقة) فحيته هذه الهانم وأخذته معها إلى قصرها الذي يضرب بيت العمدة بالجزمة القديمة. جحظت عيونهم عندما صمت ليترك لخيالهم تخيل ما سيقوله ثم انطلق يقول ما تخيلوه بالفعل فالهانم لبست الملابس التي تحرك الحجر وتعطرت بالروائح التي تحيي الموتى وجلست تأكل معه طعاما ليس فيه إلا اللحم والسمك ثم أكد لهم أنه رفض الخمر الذي قدمته فأصاب الاستياء بعضهم لأن ساعة الحظ لا تعوض فأكد لهم أن دماغه لابد أن يكون صاحيا فتدافعت الأصوات من الحناجر محيية نصاحته وواصفة إياه بأنه ابن عفاريت.. – وبعدين ياهيكل ضحك هيكل وسعل وهو يقول أنه عمل الواجب. هنا زغدته في كتفه أذكره بأن أمي تريده فانتبه لي وأمسك بيدي ثم عدنا إلى البيت تاركين حبل الأمنيات ممتدا إلى الأحلام التي يراها كل منهم في منامه فيضطر معظمهم أن يضرب غطس في النيل قبل أن ينزل الأرض في الصباح حتى لا ينجس الزرع.. نعود إلى البيت فتستقبلني الأم بالتوبيخ وتؤكد على (هيكل) أن يصحو مبكرا لأن الحاج (محمد) أرسل له أجرته ليعزق له (الطماطم) فيكح هيكل بعنف وضيق وينظر نحو أمي ونحو إخوتي الراقدين في وسط البيت بلا انتظام ويأخذ كيس الخيش ويرقد عند مدخل الدار معينا نفسه حارسا علينا.. أمي التي انتهت من خض القربة وشالت الطبق بعد أن أكلنا سمعت صوت الجحش بالخارج هبت واقفة تحمل الفأس عن هيكل الذي ازداد انحناء ظهره ...