إن القضاء جزء من كيان هذا الوطن العريق ، والقضاة جزء من هذا الشعب الكريم ، الذي تمكن الطغاة من إزلاله ، وتسلطوا عليه ، وقبض على مقاليد أموره حكام بطشوا به وأهدروا حريات الإنسان فيه وهتكوا حرماته ، وحطوا من كرامته وآدميته ، ورغم ما كان بيدهم من آلات البطش ، وأدوات الطغيان ، كانوا يشعرون في قراره نفوسهم أنهم أضعف من أن يواجهوا القضاء العادل القوى الأمين .. ورغبة من هؤلاء الحكام في التحكم والاستبداد دون رقيب أو حسيب عمدوا إلى تجنب القضاء والتقليل من شأنه ونزع ثقة المواطنين فيه بإهدار قدسيته وما يحاط به من إجلال ومهابة منذ أن كان على الأرض قضاء .. واتبع هؤلاء الحكام مسلكين وعرين .. الأول هو إصدار قوانين بمنع التقاضي ، حتى كاد أن يصبح منع التقاضي هو الأصل ، وحتى إن تظاهروا بالاحتكام إلى القضاء كانوا يقدمون المواطنين إلى غير قاضيهم الطبيعي بإنشاء محاكم استثنائية لا تضم أي عنصر قضائي مما لا يمكن معه الاطمئنان إليها ولا إلى ما تصدره من أحكام .. والثاني إنهم كانوا يتعاونون مع وزراء عدل أقل ما يوصفون به أنهم كانوا غير غيورين على العدل أو حريصين عليه ، بل كان منهم من كان حربا عليه وعلى رجاله .. ورغم ذلك كله فما زالت صرخة الزعيم الخالد سعد زغلول تدوي في الآذان " بأن نظام القضاء في مصر يساعد السلطة التنفيذية على أن تتدخل في القضاء بطرق شتى مشروعة ، وهذا مما يؤسف له ، نعم إن لكل قاض كرامته ، وإني فخور بأن أقول إن في مصر قضاة نطقوا بكلمة الحق ، ورفعوا بها الهامات والأعناق عالية في أشد الأيام حلكة وظلمة ، حيث لم يكن هناك تشريع يصون كرامتهم فضلا عن حريتهم " . ولقد نصت الدساتير المصرية بدءا من دستور 1923 وحتى الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد ثورة 25 من يناير 2011 على أن السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها ، وتصدر أحكامها وفقا للقانون ، وأن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة ، فاستقلال القضاء ضمانة أساسية لا يستقيم العدل بدونها ، وبذلك كفل الدستور للسلطة القضائية استقلالها ، وجعل هذا الاستقلال عاصما من التدخل في أعمالها أو التأثير فيها أو تحريفها أو الإخلال بمقوماتها .. وكذلك فإن من القواعد والأصول المسلم بها في كافة دول العالم سواء منها المتقدمة أو المتخلفة أنه متى صدر حكم القضاء فإنه ليس لأحد أو لأية سلطة التعقيب على تلك الأحكام ، بل من الواجب تنفيذها، ما لم تنشأ بعد صدورها عقبات قانونية من شأنها الحيلولة دون تنفيذها .. لقد تابع الشعب المصري كله محاكمة مبارك وأعوانه إلى أن صدر الحكم فيها يوم 2/6/2012 بالسجن المؤبد لمبارك والعادلي وبراءة البعض وانقضاء الدعوى الجنائية بالنسبة للبعض الآخر .. ربما كان الشعب المصري ينتظر من المحكمة الحكم على نحو معين ، وجاء الحكم على غير ما توقع .. وربما أخطأ القاضي بالمقدمة الطويلة التي تلاها بلغة ركيكة أخطأ فيها كثيرا .. وربما أخطأ في تلاوة جزء من أسباب الحكم على نحو مبتسر فسره البعض على هواه .. وربما أخطأ الحكم في تطبيق القانون ، ذلك كله لا يبرر الهجوم على القضاء ، والتعقيب على أحكامه ، عن علم أو عن جهل بأحكام القانون .. إن البعض وللأسف منهم محامين وأساتذة قانون ونواب في مجلس الشعب ، يجهل أو يتجاهل القواعد والأصول القانونية ، قد شن هجوما عنيفا وحربا غير مسبوقة على القضاء عقب صدور الحكم في القضية المذكورة ، و رغم علمهم أو جهلهم بأن وسيلة إصلاح الأحكام القضائية ليست الخطب الرنانة في غير مكانها ، وإنما هي الطعن فيها بطرق الطعن المقررة قانونا ، وليس بالطعن فيها في مجلس الشعب أو في ميدان التحرير أو في الفضائيات عبر شاشات التليفزيون ، وبدلا من تهدئة الجمهور الثائر ، وهو معذور ، لجهله بأحكام القانون ، راحوا يدفعونه إلى الغضب والهجوم على القضاء وأحكامه ، وانساقوا وراء مجموعة منحرفة تهتف بتطهير القضاء ، وهم ممن تطهر القضاء منهم .. إن الجمهور لا يصغى عادة إلا إلى الشعور والشهوات ، واستحسانه واستهجانه للأمور ينبعثان فجأة ومن غير مقدمات تشير إليهما ، وهذا هو ما حدا بالفيلسوف " فولتير " إلى تسمية نزعات الجمهور ب " جنون العامة " .. يقول المسيو " جيلرمه " المحامى أمام محكمة استئناف باريس في كتابه " السر في أخطاء القضاة " : " الواقع إن من يفوه بكلمة الجمهور إنما يستفز الخاطر إلى تذكر المعنى المقصود من كلمات الاندفاع والغضب ، والمضي مع الحماس الفجائي ، والانعطاف الطارئ بغتة ، والأحقاد القاسية ، بل إن الجمهور من النوع البشرى هي أقرب في الشبه إلى البحر الخضم الذي تحركه الأعاصير المزعجة ، ويهدئه السكون الخادع قوة تقاوم الجمهور ، كما لا قوة تعارض البحر الخضم الذي تأتى لجاته القوية على كل شيء في طريقها فتبيده وتفنيه، لهذا كان من الرحمة ببني الإنسان العطف على من تراش فيه سهام الجمهور، وينفث فيه سم حقده فضلا عن كثرة التقلب و سهولة التغير، والصفة التي يمتاز بها هي الاتحاد في الشعور والانفعال والأهواء إتحادا يجعل له على ما بين أجزائه التي يتألف منها من التباين والتخالف شخصية مميزة له عن سواه ، وليس من صفاته الغالبة الذكاء والفهم ، بل التهور في التسليم بصحة ما يصل إلى علمه وسرعة التقلب في الرأي ، أو التصلب في عدم الاعتقاد به وهو يرمى بسهام الاحتقار أرباب العقول الراجحة ، والمدارك السامية ، والعارضة الشديدة من الأفراد الذين يتألف منهم مجموعه ما ذلك إلا ليتخذ من روح الأفراد الذين هم دون الوسط روحا عامة يقيم بها ركنه ويرفع عماده " . ويستطرد المسيو " جيلرمه " " إن قابلية الجمهور لتصديق ما يلقى في روعه تسرى بسرعة العدوى من فرد إلى آخر حتى تعم الأفراد جميعا ما ذلك إلا لأنه يقدم الشعور على العقل ، فيكون ذلك من بواعث الحيرة في إدراك ما يذهب إليه من الآراء والأحكام " .. هذه هي الصورة البارزة التي تمثل آراء الجمهور في الأمور وأحكامه على الأشياء ، فما أحرى القاضي بالابتعاد عن الشبهات والبحث عن الحقائق يدعم بها أحكامه ، ويقيم عليها صروح العدالة .. ونحن على يقين من أن المحكمة قد آلمها وهالها ما لاقاه الشعب المصري ، وما قاساه من آلام التعذيب والإذلال والتنكيل طوال حكم النظام البائد ، وما سقط شهيدا من أنبل وأشرف شباب مصر أثناء الثورة المصرية في 25 من يناير 2011 .. وبغير مساءلة رؤوس النظام السابق عما ارتكبوه من جرائم في حق الشعب المصري لن يتم تأمين حق الشعب مستقبلا ، والتأمين يكون دائما للمستقبل .. إن استقلال القضاء حق من حقوق الشعب .. حق الشعب في قضاء مستقل ، قوى نزيه أمين ، يصدر أحكامه بالعدل غير خائف ولا وجل ، غايته العدل ، والعدل المجرد ، فيكون ما يقع على السلطة القضائية افتئاتا وعدوانا على حق من حقوق الشعب لم يسبق حدوثه في تاريخ البلاد ، وهو ما يعرض سلامة الوطن للخطر .. أما هؤلاء الذين تحركهم نزعات شيطانية ، ودوافع دنيئة، وربما مغرضة ومأجورة بهدف هدم السلطة القضائية، ونشر الفوضى وتدمير الدولة المصرية Comment *