الوعي خاصية إنسانية فردية تنطلق من معرفة الشخص بكونه موجودا وفاعلا ومفكرا.. وهو ما يميز الإنسان عن غيره من الموجودات أحادية الوجود.. أما الإنسان وفق ذلك فوجوده مزدوج؛ لأنه يوجد بشكل طبيعي، وهو من جهة أخرى يوجد من أجل ذاته التي يتأملها ويتمثلها ويفكر فيها.. وهذا الفكر إنما هو نتاج فاعلية تشكل وجود الأصلي ذاته حسب "هيجل". يتشكل الوعي من جملة من التصورات والرؤى والفكر المتنوعة التي تحصلها الذات لتمدها جسرا تتواصل من خلاله مع العالم الخارجي كما يمثل هذا الجسر إطارا للتعاطي مع المتغيرات بالقبول والرفض وفق ما يرى فيه الإنسان منفعة آنية أو على المدى البعيد.. ويمكن القول أن الوعي يظل حقيقيا وفاعلا بصورة إيجابية ما ارتكن على تحديد المصلحة المباشرة والمعلومات الصادقة حسب ما تفرضه ضوابط المجتمع باعتباره خيرا.. لكن هذا الوعي إذا خرج إلى ساحة الجموع فإنه يفقد خواصه، ويصبح عرضة للتضليل والتوجيه الذي لا يكون في الغالب إلا تحايلا مغرضا يتزيا قلب الحقائق أو التعامل بأنصافها وهنا يدخل الوعي مرحلة التزييف. لذلك كان الوعي الجمعي ومازال هدفا للنظم السلطوية التي تعمل على تشكيله وصياغته بصورة يسلس معها قياد الجماهير، وهذا مخالف بالأساس لطبيعة الوعي الذي يتشكل وفق" ما هو كائن، كونه نتاج الواقع الذي تتشابك فيه العلاقات، وتفرض فيه المشكلات تعاطيا معينا معه، وتتكون فيه الرؤى الآنية بارتباط وثيق مع تجارب الماضي وتطلعات المستقبل". إن ذلك التزييف وإن بلغ أعلى درجات الإتقان إلا أنه لا يستمر طويلا لأنه يعتمد الصدام وتهييج المشاعر والانقسام المجتمعي وخلق العداوات.. على خلاف طبيعة الوعي الذي " لا يحتمل العنف ولا يقبل الإكراه، وهو يستدعي براهينه ولا يقبل الانقياد من دون حجة ودليل". ينحو الفيلسوف الألماني "إدموند هوسرل" في نظريته منطق الوعي منحىً مختلفا إذ تعامل معه- كونه عالم رياضيات بالأساس- كما يتعامل مع علم الأعداد؛ فأثبت أن الوعي الجمعي يتأسس على يقينيات راسخة "أنطولوجيا" –وجوديا- وليس بالمعنى النفسي.. وقد تم نقد ذلك التوجه من جانب كثيرين، وذهب البعض إلى قصور الوعي الجمعي عن "استقبال كافة الرسائل على نحو صحيح، فهناك الكثير من المعلومات التي لا قبل له بتلقيها والتفاعل معها، ويرجع ذلك إلى طبيعة بنيته التي لا تتجاوب مع التفصيلات ولا تميل إلى التدقيق، أما القسم الذي يُسمح باستقباله، فغالبا ما يكون ناقصا أو مشوها". وهذا ما أكده "جوستاف لوبون" في وصفه للوعي الجمعي بأنه "الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة". لذلك يبدو الوعي الجمعي- في كثير من الأحيان- مفتعلا وموجها، بل يبدو وكأنه قد خُلِّق معمليا لأداء وظيفة بعينها، وهو في مراحله المتتابعة لا يتغذى إلا على الأساطير والأباطيل أو أنصاف الحقائق على أفضل تقدير، كما يبدو مضادا للوعي الفردي، ومناهضا له، وعاملا بشكل كبير على تقليصه، وتهميشه؛ إذ أن الوعي الفردي في طبيعة بنيته يكون ملاصقا لما هو كائن، ولا يمكن انتزاعه بالكلية نحو ما هو ممكن. فإذا أخذنا في الاعتبار ما قاله "فرويد" في تحليل الشخصية بشأن عناصرها البنيوية التي تتراوح بين أمرين هما الرغبة والنفور، وأنهما يتحددان وفق حصاد التجربة الإنسانية (الماضي) وهو ما يجعل "الأنا" تصد بعض المعلومات وتشوه الأخرى بطريقة ما.. سنصل إلى أن التضاد بين الوعي الفردي والوعي الجمعي قائم ومستمر.. لأن الوعي الفردي يتشبث بتحقيق رغبات الإنسان، وإشباع احتياجاته، فإن الوعي الجمعي يرغمه على قبول ما ينفر منه بدعوى أن هذا هو الممكن والمتاح. إن محاولات السيطرة على الوعي وتوجيهه نحو الانتصار للأكاذيب والأوهام لا يصمد طويلا أمام الحاجات الأساسية للجموع التي تلح دائما مهما طال وقت الإرجاء.. لذلك فإن الوعي الجمعي كونه مضللا لا بد أن يغذى بالمخاوف، وأن يحال بينه وتلمس الحقائق على نحو فج وهزلي في أغلب الأحيان.. لكن هذا الأمر بالغ الخطورة لأن هذا الوعي الذي يقوم على العداء والضغينة من السهل أن ينقلب ويوجه ضد أي فئة دينية أو اجتماعية.. ومن الممكن جدا أن تصبح جماعة الحكم هدفا للوعي المغيب إذا صدمته الحقائق بقسوتها في لحظة مباغتة.. لكن ذلك لا يحدث إلا وفق تحقق شروطه الموضوعية. وأوضح مثال على ذلك ما حدث في روسيا في أعقاب ثورة 1917، إذ كان من غير الممكن تمرير كلمات ذات طابع اشتراكي، وإقناع الفلاحين بمزايا الاستغلال الجماعي الواسع للأرض، ووجوب التخلي عن الملكية الخاصة، ولكن "لينين" صاغ ببراعة شديدة كلمة سر لم تكن منتظرة نهائيا : الأرض للفلاحين. إنه مثال كلاسيكي لتحليل سوسيولوجي مؤسس على الوعي الممكن . يسير الوعي الجمعي غالبا تبعا للعواطف العمياء التي تتنازعها الأهواء، وتجري بها رياح هوجاء نحو هاوية سحيقة، وإذا تمثلنا تجارب التاريخ نجد أن الأخطاء تتكرر وربما بنفس الكيفية، وكأنه لا تراكم للمعرفة يمكن الاعتماد عليه ولا سبيل للإبداع يمكن تلمسه؛ والثابت أن الأنظمة لا ترى سبيلا إلى الوصول إلى مراميها سوى خداع الجماهير وتشويه وعيها ، وهي في حالة تضاد دائم مع ما تطمح إليه تلك الجماهير من معرفة وتبصر بحقائق الأمور، ورغبة حقيقية في حياة تقوم على أساس من الكفاية والكرامة، فليس إلا الدوران في هذه الحلقة المفرغة، فلا الجماهير تسلو حريتها ولا الأنظمة تنكشف أو تتبدل. وحين تنكشف الحقيقة صادمة ومزلزلة يصبح تفتيت ذلك المجموع بإشعال النعرات والمطامع والمصالح الضيقة للجماعات والفئات أمرا حتميا من جانب السلطة، يتم العمل على ذلك بتراتبية تختلف من سلطة إلى أخرى، فالأشرار المتعقلون يميلون إلى العمل على معرفة المقولات الفكرية الجوهرية لكل جماعة/ فئة؛ بهدف تعظيم الاختلاف، وتقوية الشعور بالأحقية الكاملة والاستحقاق التام لاجتناء ثمار التحول الاجتماعي الحادث أو المتوهم حدوثه؛ وبطبيعة بنية الوعي الجمعي فإنه يكون ذا قابلية عالية للارتداد إذ تحكمه المخاوف والأوهام، بأكثر من دوافع الرغبة في صنع واقع مغاير. فيكون التدمير ذاتيا.. أما الأشرار غير المتعقلين فيصنعون واقعا لا يمكن قبوله أو التحايل عليه عن قصد أو غير قصد فيصلون بالأمور إلى الكارثة على نحو متسارع لا يكاد يصدق.