أن تقف بصلابة في وجه الطغاة دفاعاً عن الحرية والمساواة أهون مائة مرة من أن تحارب للحصول علي حياة كاملة لشعبِ رضي في صمت مُخجل أن يحيا نصف حياة. اعتاد المصري استدعاء ماضيه كلما أحس بالحاجة إلي مليء وجدانه بمشاعر الفخر، فما عاد شيء في حاضره يدفعه إلي الزهو بذاته ووطنه، وكل الصور من حوله قاتمة بالقدر الذي يُضاعف مخاوفه وارتيابه من المستقبل، فيضطر دوماً إلي القبول منكسراً بالزهيد والفتات في اليد عوضاَ عن خير كثير قادم، لكنه يظل مُبهماً وفي علم الغيب. اعتلي النظام الحاكم قمة السلطة في لحظة انتشاء نادرة للجميع، فالوعود والأمنيات العظيمة التي سبقته كانت كفيلة بأن يظن أغلبنا أننا سنلامس بأيدينا عظمة الأمجاد من جديد، ولن نحتاج حينها إلي استحضار الماضي من قبره، لكن سرعان ما صُدم بعضنا في نظام بدا مغرماً بنفسه أكثر مما يجب، مشغولاً بتحصين وجوده للبقاء إلي ما لا نهاية، مبدياً ميلاً واضحاً نحو سماع أي إطراء كاذب، وضيقاً شديداً يصل إلي حد الانتقام عند سماع ما لا يروقه. تلاعب النظام السياسي الحالي بعواطف المصريين علي طريقة العشيق الذي احترف الإيقاع بالجميلات طمعاً في الاستيلاء علي مجوهراتهن، فاستطاع بحلو كلامه ووعوده الوردية تنويم الملايين وهم في كامل يقظتهم بغية الوصول للمنصب الذي سبق أن أعلن بيقين راسخ أنه زاهداً فيه وغير طامح إليه. قاربت 4 سنوات كاملة هي عمر أول فترة رئاسية علي الانتهاء دون أن نلمس أي مجداً يُذكر، بل زاد حنين الغالبية منا إلي عهود قريبة ولت كنا نظنها أزهي عصور الفساد.. فما زال المصريون يدورون في الدائرة المفرغة ذاتها، يتلقون الوعد تلو الآخر، فيصبرون علي الشقاء ولا يحصدون في النهاية إلا خطاباً جديداً أشبه بسابقه، لكن مضافاً إليه أطناناً من الإنجازات التي نسمعها فقط دون أن نطأها بأقدامنا أو تشعر بها جيوبنا الخاوية. كنا نحيا في ظل نظام مبارك بلا أدني ثقة في الخطاب الرسمي، فاستمر الحال وزاد سوءاً.. كنا نشكو التمييز في العدالة وغياب المساواة، فاستمر الحال وزاد سوءاً.. كنا نُعامل بدونية من منطلق السادة والعبيد، فاستمر الحال وصار لفئات بعينها الأفضلية دون غيرها.. كنا جميعاً مفعولاً بهم فالوطن يقوده رجل واحد لا يُقهر له أمراً، فاستمر الحال وأصبح الكل رعايا بين يدي الرجل الأكثر وطنية والأوفر ذكاءً والأشد عزماً، وما دونه مجرد كائنات ناقصة. هبط سقف الأحلام الذي قارب السماء أوقاتاً، بعد انقضاء الأعوام الأربعة للنظام، إلي ما دون السفح بكثير، فانهمك الجميع في السباق الشاق ذاته، وتوارت أمنيات استعادة الأمجاد القديمة أمام متلازمة تأمين الطعام والشراب والدواء وتسديد الفواتير، ولم يعد أحد يجرؤ علي التفوه بتلك الخرافات عن الحق في الحرية بلا أسوار، والحق في المشاركة بلا خوف، والحق في المحاسبة بلا تمييز، والحق في تداول السلطة بلا تقييد، وأهمهم علي الإطلاق الحق في أن نحيا بكرامة وفخر بلا خزي وانهزام. من باب الحقيقة لا يمكن إنكار حجم "الإنشاءات" التي يتباهي بها النظام حالياً، لكن يتحتم أولاً أن يتم وضعها في حجمها الطبيعي دون الحاجة إلي تعظيمها بوصفها إنجازاً غير قابل للتكرار، فالفضل في تلك الطرق والبنايات السكنية يلائم فقط وزارة أو إدارة أو جهة ما، ولا يليق أبداً تعميمه باعتباره إنجاز ثورة ودولة، فقد ذهب معظمنا إلي صناديق الاقتراع لانتخاب نظاماً سياسياً وليس شركة مقاولات. الإنجاز الحقيقي الملائم لثورة شعب هو التغيير لأبعد مدي.. التغيير في العقول والأفكار وليس الأشخاص، التغيير في الإنسان وليس في الأحجار، التغيير في الرؤي وليس استنساخ نفس الطرق البالية، لكن من شروط هذا التغيير أن نحتكم إلي المراجعة والنقد والحساب واستبعاد محدودي الكفاءة، وهذا بالقطع غير وارد، فمن يملك وسط هذا الهدير الجارف من التصفيق جسارة أن يشير إلي وجود تقصير أو فشل، فالبشر جميعهم خطاؤون باستثناء هذا النظام صاحب العصمة من الأخطاء. لن يلامس المصريون أي تغيير في أحوالهم، فالوعود ستتدفق والأحوال ستتأزم وإدمان الهيمنة لن يتوقف، وأصاغر الأعمال ستتضخم لتصبح إعجازاً، والأيادي ستلتهب من حرارة التصفيق، وستتسع دائرة المنافقون لتضم أعضاءً جدد، وسيُخرس الإرهاب أي صوت يشذ عن سيمفونية الاصطفاف، وستبقي الحريات منزوعة لأجل غير قريب، وستظل "حقوق الإنسان" بعيدة عن مصر لأنها "ممولة وسيئة السمعة"، وسيستمر معيار الوطنية هو ترديد "تحيا مصر 3 مرات"، وسيظل الحاكم متفرداً في كل شيء، وسيعود الشعب لهوايته القديمة باجترار المجد من الماضي، وستظل أقصي أحلامه في وطنه هي أن يحيا نصف حياة.