أطلقت "شبه الدولة" اللجام لجموح الأسعار، وزعمت أنها خطة إصلاح مدروسة لوضع مصر على خريطة التقدم، وأنه لا خوف علي المصاب ب"سرطان الاحتياج" من أي نزيف محتمل، فالرئيس الملهم قادر علي استئصال أورام التخلف والفقر بمشرط جراح ماهر، وشأن أي عملية جراحية سيخلف الأمر بعض الندبات والآلام الطفيفة، سرعان ما تزول بفعل جرعة مسكنات جاهزة ومعدة مسبقاً. حمل النظام الحاكم علي كاهله مسئولية جسيمة، فهو الآن مطالب بتبرير "فعل فاضح"، وليس أمامه مفر سوى إقناع الفقير بأن دواءه ومصلحته في المزيد من الفقر. المهمة شاقة بل مستحيلة، فهي أشبه بمحاولة إقناع برئ بأن "بدلة الإعدام" ستزيده أناقة، وأن وضع حبل المشنقة حول رقبته لا يعني نهايته، بل هو الخلاص من أوجاعه، وبداية جديدة لمستقبل مشرق في انتظاره. قال النظام إنه ماض في مساره وفق مخطط أن نكون "قد الدنيا"، فصم آذانه عن أي نداءات أو استغاثات تدعوه إلى التروي وتحذره من التورط في عملية "إبادة جماعية" لأحلام البسطاء في الحياة، فقائد غزوة "الفرم الكبري" عقد العزم على خوض غمار حرب الاستقلال المؤجلة، ولن تثنيه أي أصوات مترددة أو خائفة.. "الجرأة حلوة مفيش كلام"! وكالعادة، انساق كل مسئولي الدولة خلف "سبارتاكوس" العظيم، عزفوا جميعاً علي نفس الوتر النشاز في سيمفونية التبرير، فلا علاج بدون مضاعفات، ولا إصلاح بدون كلفة، والجميع صغارا وكبارا يجب أن يرتدوا زي الجندية لحمل لواء الجهاد الأعظم، فهذا وقت إنكار الذات وإعلاء راية الوطن، باختصار: "مصر عايزاك تضحي عشانها تاني يا رأفت"! خطاب أجوف ومكرر منذ القدم، فلا مصر اشتمت رائحة التقدم، ولا قاطرة الإصلاح حققت أي إصلاح، بل علي العكس تضاعفت ثروات الكبار وحقق الفساد ما يتمناه، زاد طغيان السلطة واتسعت رقعة الفقر، وإن سألتهم عن وعودهم السالفة بالرخاء، تأففوا وتململوا، وسرعان ما ألقوا عليك باللوم لإسرافك وتكاسلك وإتكالك علي دولة باتت ترفع شعار: "أنا مش قادر أديك"! في خضم هذه الملحمة التاريخية لعملية "العبور الثالث" لمصر، كما حلا للبعض أن يصفها، يمكنك أن تلتمس الأعذار لصناع "قرار النكبة" ومحترفي القفز علي حبال السلطة وأصحاب المصلحة، فهؤلاء لا عتاب عليهم، ولا رجاء منهم، ولكن المثير للشفقة أن تجد آخرين غرقي حتي أنوفهم في أوهام الإنجازات، مصابين بحالة إنكار للحقائق، غير مصدقين أن سائق العربة المنطلقة بأقصي سرعة.. "مبيعرفش يوقفها"! لا يملك الفقراء سوي صرخة مكتومة يتردد صداها فقط في ضلوع تمزقت من شدة العوز والحاجة، صرخة لن تؤرق مضاجع الأكابر ساكني الأبراج العاجية، المتشدقين بذواتهم ومناصبهم، المتكالبين علي جاه زائل، الملطخة أفواههم بالكذب، المتوارين خلف أقنعة الوطنية الزائفة. يا سادة، لا إصلاح يأتي علي حساب أنات العجزة والمحتاجين، ولا إصلاح من دون حساب للمخطئ والفاشل، ولا إصلاح بالمخادعة وتزوير الحقائق، فإن كنتم تنشدون الإصلاح حقاً، ارحموا الضعيف واجتثوا الفساد، انشروا مكارم الأخلاق بدلاً من المحاباة والنفاق، افتحوا أبواب الحرية الموصدة حرية المشاركة وليس القول انزعوا عن أنفسكم الهالة المقدسة واعترفوا بالأخطاء بلا مكابرة، فأنتم مثلنا خطاؤون، وخير الخطائين هم التوابون.. فهل تفعلون؟ لن تجدي خطط الإصلاح بانتهاج حيل الدجل والشعوذة، بمحاولات تنويم الضحية مغناطيسياَ لحثها علي تجرع السم طلباً للشفاء، واحذروا يا أصحاب الفخامة والمعالي من رياح الغضب التي بدت تلوح في الأفق، سارعوا بتصحيح المسار، وحافظوا قدر استطاعتكم علي ورقة التوت التي تستر عورتكم، وإلا وجدتم أنفسكم في وسط الطريق، عراة بلا سند ولا ظهير…..!