في كارتون بريشة المناضل الفلسطيني ناجي العلي رسم ثلاثة من حكام العرب يقول أحدهم بذعر: إسرائيل ناويه تخوزقنا، فيرد عليه الآخر وهو أكثر ذعراً من الأول: وما العمل؟، يبادر ثالثهم فيدير ظهره ويكشف عن مؤخرته وهو يقول: بسيطة. لم يمهل القدر ناجي العلي ليرى بأم عينيه ما جرى على الحقيقة، وهو أسوأ بمراحل من كل خيالاته وأكثر سخرية من كل رسوماته، وربما كان القدر به رحيماً إذ رحل قبل أن يرى قضية عمره وعمر أجيال سبقته وأخرى لحقته وهي تتعرض لأشرس عملية لتصفيتها واقتلاعها من الجذور تحت مسمى صفقة القرن. ولست أظن أن أحداً عاقلاً يمكن أن يتصور أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني والشروع في نقل السفارة الأمريكية إليها جاء بمعزل عما سبقه أو منعزلاً عما يخطط لما يلحقه، وهي خطوة طبيعية كانت مرتقبة ولم يفاجأ بها غير النائمين في العسل، والعائشين على استحلاب حبوب الوهم. القرار الأمريكي جاء في سياق التطورات الإقليمية موصولاً بالترتيبات المعدة سلفاً لمرحلة ما بعد داعش ووصول الحروب الداخلية في بلدان المنطقة إلى نهاياتها، والحق أن ذلك القرار هو في الأصل تمهيد لما هو قادم، وليس مجرد خطوة معزولة أقدم عليها رئيس يوصف بأنه مجنون ومتهور استطاع أن ينفذ الخطوة التي لم يستطع رئيس أمريكي قبله على القيام بها طوال العقدين الأخيريين. وكما أن القرار تمهيد لما يأتي بعده فقد جاء ترتيباً على ما جرى قبله، والأنباء تتري والتسريبات تتكاثر لتؤكد جميعها على أن تزايد حجم التنسيق والتفاهم بين إسرائيل وعدة دول عربية بوتيرة متسارعة على أرضية التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية واعتبارها من الماضي الذي لا يجب السماح بوجوده في الحاضر ولا في المستقبل. لم يغامر ترامب باتخاذ قرار امتنع على رؤساء أمريكا السابقين على اتخاذه رغم وجود قرار الكونجرس الأمريكي بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس. وترامب ليس هو صاحب صفقة القرن فهي موجودة قبله، وقد جرى حديث حول بعض بنودها مع بعض الحكام العرب قبل ثمان سنوات، وقد أعلن الرئيس الأسبق حسني مبارك أنه رفض عرضاً بمبادلة أراضٍ مصرية في سيناء مع أخرى في صحراء النقب ضمن صفقة لا تزال بنودها الرئيسية وخطوطها الأساسية هي التي تشكل جوهر ما يسمى اليوم بصفقة القرن. ربما يكون ترامب هو عرّاب الصفقة الذي رأى الظروف وقد نضجت ورأي في نفسه الجرأة على الدخول فيها رغم ما قد يعترضها من عواصف وبرغم ما يمكن أن تجره من معارضات يعلم أنها كلامية لا تعبر عن مواقف حقيقية. ليست هناك مفاجأة على الصعيد الرسمي العربي، وما بات معروفاً يؤكد أن واشنطن وتل أبيب قطعتا أكثر من نصف الطريق مع دول عربية للدخول إلى ساحة المرحلة الجديدة في الشرق الأوسط، وبعض القادة العرب بادر إلى الإعلان عما يسمى بصفقة القرن، ورئيس الوزراء الصهيوني ووزراء إسرائيليون تحدثوا أو سربوا الكثير عن بعض مضامين تلك الصفقة، بل إن الرئيس الأمريكي نفسه كان قد أعلن من قبل عن رفضه لحل الدولتين فضلاً عن الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. حتى التوقيت الذي يراه البعض مفاجئاً أستطيع أن أزعم أنه لا مفاجأة فيه، ربما كان محرجاً لبعض الأطراف، ولكنه لم يكن أبداً مفاجئاً لأحد منها، ويكفي أن نتذكر أن وفداً بحرينياً قام بزيارة القدس في أعقاب إعلانها من قبل ترامب عاصمة لإسرائيل. مشكلة ترامب الحقيقية أنه تلبسته روح ساداتية فراح يقفز فوق الأسوار في محاولة لحرق المراحل، وبدلاً من أن يعلن المبادرة الشاملة التي تتضمنها صفقة القرن، والتي من ضمنها موضوع القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ورفض مبدأ عودة اللاجئين الفلسطينيين، واقتصار الأمر على خطة تسوية تتغافل كل قضايا الحل النهائي مقابل دويلة فلسطينية منزوعة السلاح مقطعة الأوصال، وأن يتحمل العرب مكافأة الفلسطينيين من أرضيهم وأموالهم وأن تحتفظ إسرائيل بالمستوطنات والقدس تحت السيادة الإسرائيلية. جوهر صفقة القرن هو فرض الاعتراف بالأمر الواقع، وتطويره ضمن سياسة الخطوة خطوة إلى إقامة علاقات سلام دافئ بين العرب وإسرائيل، والبرنامج المطروح لتحقيق تلك الغاية يقوم على مبادلة السياسة بالاقتصاد، واستبدال العداء بين العرب وإسرائيل إلى وجهة أخرى تكون إيران فيها هي العدو المشترك، وربما جر المنطقة إلى حرب مذهبية جديدة تكون هي الوقود اللازم لتدفئة السلام المرتقب.! على أنقاض القضية الفلسطينية يقوم السلام الجديد، وإعلان تصفية القضية التي ظل العرب يسمونها قضيتهم المركزية يستلزم إقامة قضية مركزية جديدة تكون إسرائيل حليفا قوياً فيها، وقد اتخذ ترامب قراره وهو يعلم أنه يمكن أن يواجه موقفاً أوروبياً أكثر تأثيراً من العالم العربي والإسلامي الذي لا يملك إلا الشعارات والخطب والبلاغة الفارغة من أي مضمون جاد وحقيقي. ما الذي دفع ترامب إلى الإقدام على تلك الخطوة التي تريث فيها قبله الرؤساء بيل كلينتون وأوباما وبوش الأبن، الذين وعد كل منهم ناخبيه ومواطنيه وجماعات الضغط الصهيونية وقبلهم جميعا إسرائيل بأنه سيعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأنه سيباشر فور توليه الرئاسة بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس، وهو نفس الوعد الذي قطعه على نفسه كل من بوش الابن ومن بعده الرئيس أوباما حتى جاء ترامب ليفي بوعده قبل أن ينتهي عامه الأول في البيت الأبيض. صحيح أنه يبدو مندفعاً باتجاه تحقيق انجاز ما يحسب له، ووجد الطريق ممهدة له أكثر في منطقتنا لتحقيق مثل هذا الإنجاز بينما يصعب عليه احراز أي انتصار في الداخل، والمؤسف أن ترامب يعرف حقيقة مواقف الدول العربية، ولا يهتم بمواقفها المعلنة التي يعلم قبل أي أحد آخر في العالم أنها مواقف مزيفة لا قيمة لها على أرض الواقع، بعضها يرتفع العلم الإسرائيلي في سماء عاصمتها وبعضها الآخر يسعى حثيثاً لإقامة علاقات جادة ومميزة مع الكيان الصهيوني. ترامب مثل الذين جاءوا من قبله ومثل من سيأتي بعده ليس أقل ولا أكثر انحيازاً منهم لإسرائيل، والجديد على هذا الصعيد لا يكمن في المدى الذي وصل إليه الرئيس الأمريكي في الانحياز إلى الصهاينة، ولكن الجديد المفجع يكمن في المدى الذي وصل إليه حكام العرب في الانحياز إلى المطالب والتطلعات الإسرائيلية على حساب وجثة ما كان يسمى في أدبياتهم بالقضية المركزية للأمة العربية.! ترامب مش أهبل، إحنا اللي عُبط، وكثيرٌ منا لسه على نياته، ولا عزاء لناجي العلي الذي رأي المصيبة قبل أن تقع فصولها الأكثر خزياً لحكام العرب.