يشق غبار الضجة في العالم العربي خبر إعلان الرئيس الخامس والأربعون لأميركا دونالد ترامب القدس عاصمة أبدية "للشعب اليهودي" بحسب بيانه، هو لا يراها فقط عاصمةً للصهاينة وكيانهم الإحتلالي فحسب، هو يجدها عاصمة لدولةٍ من "التجمّعات" البشرية غير المنسجمة" والتي تدّعي زوراً أنها "أمّة واحدة". لا يعنيني بيان ترامب، كما لا تعنيني كثيراً الخطابات الرنانة والشعارات البراقة وبيانات الشجب والإدانة الغربية أو العربية منها، كلها سيان، فالفكرة في بالي أن البيانات منذ "اللاءات" الثلاث الشهيرة في مؤتمر الخرطوم: "لا صلح لا تفاوض لا اعتراف" وصولاً حتى موقف MBS (محمد بن سلمان لمن لا يعرف)، من ما سمي "صفقة القرن". المشكلة الأساسية عندي هي أنني لازلت أنتظر من الشعوب العربية أن تأخذ مكانها الطبيعي، أن تكون كما أعتقد أنّها وكما هي على فطرتها وحقيقتها وطبيعتها: عفوية، صادقة، تحب فلسطين كما يحبها أهلها. باختصار هناك دائماً هامشٌ كبير بين الأنظمة العربية وشعوبها، وإذا ما حصل أن لم يكن الإداء الشعبي على قدر "الآمال" فإن المشكلة تكون إما في القمع المتوحش السائد، أو في وسائل الإعلام التي تضغط بكل ما أوتيت من قوة على وعي الناس العاديين البسطاء. وليس أبلغ من مثلٍ الإعلاميين الزوجين لميس الحديدي وعمرو أديب. تحضر الشخصيتان إلى الواجهة كونهما النموذج الأكثر بروزاً لعمل الإعلامي الموجه الذي يؤدي ما هو مطلوبٌ منه دون مراعاةٍ لأي شيء. هو إعلام دون مبادئ، دون أخلاق، دون أي ضوابط: فقط إعلام الهدف. من يراقب كيف كان أديب يتحدّث مثلاً عن كتائب عز الدين القسام إبان حرب غزّة(2008) يعتقد أن الرجل قد درس لدى بوعز بوسمت (إعلامي صهيوني معروف)؛ لم يراعِ الرجل أي حرمة للدماء الفلسطينية التي كانت تسيل، كان فقط يريد أن يهاجم "حماس" والإخوان المسلمين. وبغض النظر عن رأينا بحماس أو بحركة الإخوان، لكن الرجل لم يكن "منصفاً" أو حتى "محقاً" أو "وطنياً" في كلامه، كان "منتقماً" فحسب. اللافت في الأمر، وكي يؤكد كلامنا: عاد الرجل قبل مدةٍ قصيرة وزار حماس في غزّة وقابل إسماعيل هنية أحد أكبر قياداتها وجلس وحاور، كما لو أنه غير شخص. لقد كان بحسب ما يعتقد: مهنياً وحرفياً؛ رغم أن المهنية والحرفية لا تعني ذلك أبداً. طبعاً نفس الأمر ينسحب على زوجته "الحديدي" التي خلال تغطيتها لحرب غزة، تحدثت مثلاً عن الموقف المصري الذي يقف في المنتصف بين "حماس/الإخوان المسلمين" و"الكيان العبري" كما لو أنّهما "خصمان عاديان" لا شان لمصر العروبة بهما، الإعلامية "القديرة" (كما يحلو لكثيرين وصفها) بدا أنّها تأخذ طرفا وتنحاز للكيان العبري خلال النقاش. وفي ذات الرحلة التي ذهب بها زوجها لغزّة ذهبت معه وقابلت شخصيات "حمساوية" وأخذت الصور معهم، كما لو أنّ شيئاً لم يكن. لكن ذلك يكفي إعلامياً؛ فلنعد إلى النقطة الأساس: ترامب والقرار الأميركي. يحضر إلى الأذهان أساساً أن الرجل أي ترامب هو عبارة عن تاجر كبير، يلعب تماماً وبكل ما أوتي من قوة بما لديه لكي يحصل على "الأكثر" و"الربح الوفير" على عادة التجار. لقد وصل الرجل غير مرةٍ إلى شفير الإفلاس، وحتى حدود الموت في مراتٍ عدّة، لكنه أثبت أن من "جد وجد" حتى وإن كان بطرقٍ غير شرعية أو قانونية. أصبح رئيساً لأميركا، واليوم هو يفعل ما كان غيره لا يفكر حتى بالإتيان به. ما المشكلة إذا ما أعلن عن القدس عاصمة للصهاينة؟ من سيمنعه؟ الدول الغربية؟ مجلس الأمن؟ الأممالمتحدة؟ هذه كلها محيّدة حالياً وعبر "whips"(كما يسمونهم سياسياً بمعنى "أسواط" لأن القادة يستعملونهم لتأديب خصومهم) مثل السفيرة الأميركية لدى الأممالمتحدة نيمراتا "نيكي" هايلي (الآسيوية الأصل إذ تنحدر من الهند). الدول الإسلامية والعربية؟ بالعكس هذه الدول بمعظمها تقف خلف قراره، إن لم يكن بالعلن، فبالسر، فلنكن واقعيين ما هي الدول التي ترفض بشكلٍ قاطع أن تكون العاصمة المقدسة عاصمة لكيان الاحتلال؟ عواصمٌ قليلةٌ للغاية: بيروت، دمشق، بغداد، طهران ومن أيضاً؟ ماذا عن القاهرة مثلاً؟ بلاد أحمد عرابي، ومصطفى النحاس، وسعد زغلول وجمال عبدالناصر أينها؟ ماذا عن أبناء فرحات حشاد في تونس؟ ماذا عن أحفاد عبدالكريم الخطابي في المغرب؟ ماذا عن ثورة المليون ونصف المليون شهيد في الجزائر؟ ليس في الأمر استدرارٌ للعواطف ههنا، لكنها أسئلةٌ تطرح ولابد لها من إجابة. إذا، يقدّم ترامب مشروعه، ويحاول بكل ما أوتي من قوة تمريره: نقل السفارة بعد ذلك "صفقة القرن"، بعد ذلك خلاصٌ تام من القضية الفلسطينية يليه "تطبيل" أميركي طويل للبطل الأشقر "المهفهف" الذي أنهى الصراع العربي الصهيوني بإنتصارٍ مدوٍ للصهاينة، كل هذا طبعاً موجه لإعادة انتخابه مرةً جديدة. هكذا يعتقد؛ التاجر المختبئ خلف بزته أن الأمور هكذا، وينسى تماماً ان الأمور في بلادنا لا تحكمها التجارة. صحيح أنَّ التجار كثر، ومثقفي التجار أيضاً أقوياء، إلا أنَّ جذوة المقاومة لا تزال مستعرة، كما لاتزال السواعد تمتشق البنادق الواعية؛ فالمقاومة في لبنان باتت أقوى من ذي قبل مئات المرات، وباتت قوةً إقليمية لا يشق لها غبار. كذلك في غير دولةٍ عربية هناك وجود لقوى يمكن اعتبارها قوى تحرر –وإن شابتها بعض الأمور- كأنصار الله في اليمن، الحشد الشعبي في العراق، دون نسيان الجيش العربي السوري كطليعةٍ لكل ذلك والجمهورية الإسلامية الإيرانية ودورها الرئيسي ناهيك عن لواء القدس الذي يسطر ملاحماً بمواجهة داعش وكان له الدور الأبرز في القضاء عليها كلياً. باختصار، قد يفوز الخصم في هذه الجولة، قد يربح هذه المعركة، لكنه ابداً لن يكون المبتسم الأخير والضاحك الأخير، وكما قال قس بن ساعدةٍ يوما: "خيرنا الضحاك عند النزال، خيرنا البسام عند الختام، الصخاب عند النصر".