أزمات الشرق الأوسط لم تعد تداعياتها تتوقف على حدود المناطق العربية المشتعلة، بل أصبحت تنتقل من بلد إلى آخر، وتؤثر في طبيعة العلاقات التي تربطها ببعضها وفقًا لتقاطع المصالح، في الأمس كانت الأضرار التي تطال البلدان البعيدة (الغربية) تتمثل في الموجات الارتدادية للإرهاب والآثار الاجتماعية لموجات حركة الهجرة واللاجئين. اليوم تطورت الأمور، وأصبحت تهدد كيانات عالمية فاعلة كالناتو، فالخلافات الجديدة بين واشنطنوبرلين من جهة، وأنقرة من جهة أخرى، هي تهديد حقيقي للحلف الأطلسي. خلافات واشنطنوأنقرة الربط بين أنقرةوواشنطن والناتو له تداعيات خطيرة، فتركيا تعد القوة الثانية في الناتو بعد الولاياتالمتحدة، والخلافات بين البلدين بدأت تأخذ منحى تصاعديًّا، ولا يبدو أن زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في مكتبه البيضاوي قبل ثلاثة أيام قد نجحت في إذابة الجليد بينهما، فالأزمة بين واشتطن وأنقرة التي نجمت عن عزم الولاياتالمتحدة تسليح وحدات مقاتلي حماية الشعب الكردية بأسلحة ثقيلة ومتطورة ما زالت حافلة بكثير من المحطات، فبالأمس الدولة التركية طلبت على لسان وزير خارجيتها، مولود تشاويش أوغلو، إعفاء المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، بريت ماجيرك، والذي يشرف على مهام التحالف الدولي لمحاربة داعش منذ أكتوبر 2015 من منصبه، وعزا الأتراك السبب إلى تقديمه الدعم العلني لوحدات حماية الشعب الكردية، وهنا الطلب التركي قد يكون رسالة مباشرة إلى ترامب، فماجيرك يسير بتوجيه من الإدارة الأمريكية وليس وفقًا لأهوائه وتطلعاته. التصريحات والمطالبات التركية تأتي بعد لقاء أردوغان بترامب، والذي اتفقا فيه على تعزيز العلاقات الثنائية، بينما حذر الرئيس التركي من تسليح الأكراد السوريين الذين تعتبرهم أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أمريكا منظمة إرهابية، كما أنها تأتي في وقت رحبت فيه أنقرة بمغادرة القوات الألمانية قاعدة إنجرليك الجوية التركية؛ احتجاجًا على منع تركيا نوابًا ألمانًا من زيارة جنودهم في القاعدة التي تنطلق منها الهجمات على مواقع داعش. تأثير الخلاف الأمريكي التركي صب باتجاه الناتو، فوزير خارجية تركيا وجّه سهام النقد إلى الحلف الأطلسي، في تصريحات أدلى بها في مقابلة تليفزيونية على قناة "NTV" التركية، بقوله "إن الإجراءات التي اتخذها حلف شمال الأطلسي لحماية المجال الجوي لتركيا غير كافية حتى الآن". وتأتي هذه التصريحات قبيل الاجتماع المقرر الأسبوع المقبل للحلف في بروكسل، وشهدت علاقة أنقرة بأعضاء كثيرين في الناتو كهولاندا وبلجيكا وألمانيا مجموعة من الخلافات قبيل الانتخابات التركية حول التعديلات الدستورية. ولا يبدو الحلف الأطلسي في أحسن حالاته، فترامب نفسه كان قد لوّح الأربعاء الماضي بالانسحاب من الناتو، إذا لم يحقق الحلف تقدمًا كافيًا. الرسالة التي لم تعجب على ما يبدو كلًّا من باريسوبرلين، حيث ذكرت وكالة رويترز للأنباء نقلًا عن دبلوماسيين في الحلف أن فرنساوألمانيا رفضتا خطة وضعها مسؤولون أمريكيون، يلعب بموجبها حلف شمال الأطلسي دورًا أكبر في محاربة تنظيم داعش. وبالعودة لتركيا نجد أن خلافها مع واشنطن أخذ في التفاقم، حيث استدعت وزارة الخارجية الأمريكية، أمس الخميس، السفير التركي في الولاياتالمتحدة، سردار قليج، عقب الضرب العنيف الذي تلقاه متظاهرون خارج مقر السفارة التركية في واشنطن على يد عناصر من الأمن التركي، وهو الأمر الذي يشير إلى أن العلاقات التركية الأمريكية آخذة في التدهور، إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أيضًا بخلافاتهم حول معركة الرقة والمشاركة التركية فيها، وملف اللاجئين السوريين على الأراضي التركية الذين يناهز عددهم 2 مليون لاجئ، واقتراب واشنطن من موسكو حول فكرة مناطق "خفض التوتر" على حساب المناطق الآمنة التي تطالب بها أنقرة. أنقرةوبرلين في الوقت الحالي تحاول ألمانيا أن تخلي قواتها المتواجدة في قاعدة إنجرليك التركية من تركيا إلى الأردن، وإن حدث هذا الأمر، فسيشكل سابقة في تاريخ الناتو، بأن تقوم دولة من أعضاء الحلف الأطلسي بنقل قواتها من قاعدة تابعة لدولة في الناتو إلى دولة أخرى من خارجه. وفي لغة تبدو تصعيدية من أنقرة تجاه برلين، ردّ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، على التصريحات بالقول "هذا أمر يخصهم"، وأضاف "لن نتوسّل لهم من أجل البقاء". وكانت وزيرة الدفاع الألمانية أورزولا فون ديرلاين أعلنت أمس عزمها إجراء محادثات استطلاعية في الأردن مطلع الأسبوع المقبل، للبحث عن بديل لقاعدة إنجرليك التركية، التي تتواجد فيها القوات الألمانية ضمن التحالف الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة لمكافحة تنظيم داعش، وذلك بسبب تصاعد الخلاف مع تركيا بعد حظرها زيارة نواب من البرلمان الألماني للقاعدة التابعة لحلف شمال الأطلسي. وقال وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل لصحيفة "نويه أوسنابروكر تسايتونغ": "لا يسعني إلا أن أتمنى أن تغير الحكومة التركية رأيها في الأيام القليلة المقبلة، وإلا سيصوت البرلمان الألماني قطعًا بعدم ترك الجنود في تركيا". وتأتي تصريحات الوزير الألماني عقب تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي قالت فيها إن "برلين قد تنقل جنودها إلى مكان آخر". الجدير بالذكر أن الحديث عن تفكك كيانات عظمى بات واردًا بعد أزمات الشرق الأوسط، فالاتحاد الأوروبي صار مهددًا بالإزالة، وأحد أسباب هذا التهديد الخروج البريطاني منه الذي كان من أهم أسبابة ملف الهجرة.