منذ ستة أعوام، أسعدني الحظ بقضاء ساعتين مع الأديب الكبير الراحل جمال الغيطاني، كان في السادسة والستين من عمره في ذلك الوقت، وحتى اليوم، لم تغب عني التماعة عينيه عندما تحدث عن عشقه للقراءة وللكتب وللثقافة، سألته: "متى تقرأ ؟"، فأجابني: "بل قل متى لا أقرأ، فأنا أقرأ عندما استيقظ من النوم في الصباح، وعندما يسعني ذلك أثناء اليوم، وفي كل مساء أقرأ وفي يدي القلم لأدون ما يعجبني، كما أنني أقضي معظم الوقت في عطلة نهاية الأسبوع في قراءة كتب التراث، إن الكتب هم رفقائي الدائمون". وكتب عباس محمود العقاد ذات يوم يقول: "لست أهوى القراءة لأكتب، وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب". إن فكرة واحدة يكتشفها الإنسان في كتاب واحد يمكن أن تغير الطريقة التي يرى بها العالم، فكرة واحدة يقرأها في كتاب واحد يمكن أن تغير الطريقة التي يتعامل بها مع الناس، فكرة واحدة يجدها في كتاب واحد يمكن أن تساعده على أن يصبح ناجحا وسعيدا، لكن للأسف، معظم المصريين لا يهتمون بقراءة الكتب بعد الانتهاء من الدراسة، ويقضون معظم أوقاتهم في مشاهدة التليفزيون في البيوت، أو الجلوس في المقاهى، أو التجول في المراكز التجارية، أو أي شيء آخر غير القراءة والثقافة، ومعظمهم قد أغلقوا عقولهم أمام الرؤى الجديدة والأفكار العظيمة. في الستينات من القرن الماضي، زار كاتب هندي شهير اسمه كارانجيا إسرائيل، وأجرى حوارا طويلا مع موشي دايان، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وقال دايان في هذا الحوار إن إسرائيل في الحرب القادمة بينها وبين العرب ستدمر الطائرات العربية في مرابضها بضربة سريعة ثم تصبح السماء ملكا لها وتحسم الحرب لصالحها، وحينها تساءل كارانجيا باستغراب: "كيف تكشفون عن خططكم بهذه الطريقة؟"، فرد عليه دايان ببرود: "لا عليك، فالعرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا فسرعان ما ينسون ولا يتذكرون شيئا"، بعد ذلك، قام كارانجيا بتأليف كتابه الخطير "خنجر إسرائيل"، وروى فيه تلك المقابلة قبل أن تقع حرب يونيو عام 1967، وعندما وقعت الحرب طبق الجيش الإسرائيلى خطة دايان بحذافيرها التي ذكرها في مقابلته مع الكاتب الهندي، وكانت توقعاته صائبة للأسف، فلم يقرأ هذا الكتاب أحد ولم يستعد لهذه الحرب أحد. وفي إحصائية عن معدلات القراءة في العالم نشرت في تقرير التنمية البشرية لعام 2002، كان صاحب أعلى معدل قراءة في العالم هو المواطن الإسرائيلي، حيث يقرأ خمسة وأربعين كتابا في السنة، يليه مباشرة المواطن في غرب أوروبا، حيث يتراوح معدل القراءة هناك بين خمسة وثلاثين وأربعين كتابا فى السنة، ويقل هذا المعدل ليصل في دولة إفريقية فقيرة مثل السنغال إلى أربعة كتب فحسب في السنة، أما في العالم العربي، فكان المعدل يقاس بالعكس، أي ليس عدد الكتب لكل مواطن، إنما عدد المواطنين لكل كتاب، وكان المعدل ثمانين مواطنا لكل كتاب، وهذا يعني أن المواطن العربي يقرأ حوالى خمس صفحات في السنة، أو كتاب من 400 صفحة كل 80 سنة. ويتضح من هذه الأرقام أن هناك ارتباطا وثيقا بين كون الشعب متقدما وكونه قارئا، وقد يقال إن الشعب تقدم أولا ثم بدأ يقرأ، ولكن هذا القول يخالف منطق الأشياء، إذ المعقول أن الشعوب تتعلم، ثم تستعين بالعلم في تحقيق التقدم. المعرفة إذن هي محرك التقدم، ووعاء المعرفة هو الكتاب، والسبيل إلى المعرفة هى القراءة، ولقد اتفق علماء التاريخ على أن يقسموا حياة البشر على سطح الأرض إلى فترتين: الفترة الأولى، امتدت عشرات الألوف من السنين، ويطلق عليها اسم ما قبل التاريخ، أما الفترة الثانية، فلا يعدو عمرها سوى خمسة آلاف عام وهي وحدها التي يتكون منها التاريخ، والحد الفاصل بين التاريخ وما قبل التاريخ، الحد الفاصل بين الحضارة وما قبل الحضارة على نطاق الأرض كلها بشعوبها وأجناسها المتعددة، ليس معركة حربية كبرى، وليس مولد إمبراطورية أو انهيارها، وليس حدثا طبيعيا كزحف الجليد أو تراجعه، إنما هو حدث حضاري محض، هو اكتشاف الكتابة، أو بعبارة أخرى اكتشاف القراءة. بالكتابة أخذ الإنسان يدون ما تلقاه مشافهة عن السلف، وما تعلمه من تجربته، وما هداه إليه تفكيره، وبالقراءة لم يعد فرضا على كل إنسان أن يبدأ معرفته من الصفر، بل أصبح بوسعه أن يستأنف من حيث انتهى من سبقه، وهكذا أصبحت المعرفة البشرية نسيجا متصلا عبر القرون، يتعاقب النساجون وتتفاوت مهاراتهم، ولكن النسيج لا ينقطع أبدا بفضل الكتابة والقراءة. إن القراءة تنمي الفرد، والفرد ينمي المجتمع، ولن تكون هناك تنمية بغير قراءة، فالقراءة هي جهاز الاستقبال الذي يفتحه القارئ على العالم فينهل بعينيه ما فيه من جديد، والفرد الذي لا يقرأ يوقف التيار الفكري الذي يربطه بالعالم، ويحكم على نفسه بالعزلة، وعلى عقله بالجمود، وعلى مواهبه بالتحجر. لكن هذا لا يعني أن الكتب تغني عن تجارب الحياة، لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم الحياة حق الفهم، فالقراءة تمد العقل بمادة المعرفة، ولكن التجربة هي التي تجعلنا نمارس ونفحص ونختبر تلك المعرفة، وفي المقابل، فإن التجارب لا تغني عن الكتب، وذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد منا أكثر من ثمانين عاما. غير أنه ليست كل الكتب على نفس الدرجة من الفائدة، فهناك كتب تُقرأ بالكامل، من الغلاف إلى الغلاف كما يقال، ولا يخرج منها القارئ بشيء، وهناك كتب قد يتصفحها القارئ سريعا أو يقرأ منها بضع صفحات فحسب وتترك في نفسه أثرا عميقا يظهر في كل كلمة يقولها، وكل سلوك يسلكه، وكل موقف يتخذه من مواقف الحياة، يقول الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون: "هناك كتب تستحق أن يذوقها القارئ، وكتب تستحق أن يلتهمها، وكتب تستحق أن تمضغ وتهضم"، لكن في جميع الأحوال لا يجب أن يُكره القارئ نفسه على القراءة، وأن يترك الكتاب في اللحظة التي يشعر فيها بالملل والفتور، يقول الكاتب والشاعر الإنجليزي صمويل جونسون: "إن الإنسان ينبغي أن يقرأ ما يميل إلى قراءته، وتقوده إليه هواياته، فإن ما يقرؤه كواجب لن ينفعه إلا نفعا ضئيلا". أما كيف يتبين القارئ الكتاب المفيد، فإنه يتبينه من كل ما يزيد معرفته وينمي ثقافته ويرفع من قدرته على التفكير والشعور وتذوق الحياة، فنحن لا نقرأ إلا لنغير أنفسنا، ومن ثم نستطيع تغيير الواقع الذي نعيشه، أما القراءة التي تسعى إلى التسلية فقط دون أن تؤدي إلى تغيير أنفسنا إلى الأحسن، فخير منها عدمها، وعلى هذا المقياس يستطيع القارئ أن يفرق بين الكتاب المفيد والكتاب غير المفيد. نصيحة مخلصة ورجاء، لا تتوقفوا أبدا عن اقتناء وقراءة الكتب المفيدة والتعلم منها، فإن الأمة التي لا تقرأ، أمة في خطر.