مع الاستشهاد المدوّي للمناضل باسل الأعرج، في الضفة الغربية بيد قوات الاحتلال الصهيوني، عادت الضفة إلى صدارة المشهد الفلسطيني، بعد سكون نسبي منذ انحسار "انتفاضة السكاكين" التي قام بها شبابها، مشعلين حركة مقاومة واسعة لم يقل أثرها كثيرا عن أثر مقاومة مواطنيهم في غزة ونظرائهم في الجنوب اللبناني. باستشهاد باسل، فوجيء الكثيرون من العرب بما كان يحمله الشهيد من فكر مقاوِم يعمل بنهج جذري ومُسلَح ومفارِق للتخلي والانبطاح من ناحية، وللطائفية الدينية من ناحية أخرى، ويبدو أن قدْرا من المفاجأة أيضا كان من نصيب المتابعين الأوروبيين والأمريكيين، الذين انحصرت رؤيتهم في المرحلة الأخيرة لمقاومة الشعب الفلسطيني على ما تحققه أموالهم من أنشطة للمجتمع المدني في الضفة طارحة القضية الفلسطينية على أنها "قضية ثقافية" ترتبط بمسألة "حقوق الإنسان" لا أكثر، بعيدا عن أصل المسألة وجوهرها وهو الاحتلال والاستيطان، كما بات واضحا أن في الضفة الغربية من يؤمن أن الطريق للحرية والاستقلال وطرد الاحتلال هو الكفاح المُسَلَح المُنظَم وليس "ورش العمل" المَعنية بالرسم والتطريز والموسيقى الفلكلورية. قراءة سريعة للواقع الديموغرافي للضفة الغربية ومُدنها قد تقودنا إلى المزيد من الفهم لاستمرار وجود نواة مشروع مقاومة مُسلَحة في الضفة الواقعة صوريا تحت سلطة "فتح – أوسلو". يبلغ التعداد السكاني للضفة الغربية حوالي 2 مليون و700 ألف فلسطيني في مقابل 385 ألف مستوطِن صهيوني منهم 200 ألف يقطنون في القدسالشرقية وحدها، المعزولة عن باقي الضفة بسياج أمني مُشدد، والمتمتعة بوضعية مركزية مدينية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا في مقابل مستوطنات الضفة ذات الطابع الريفي والأقل تطورا، يُشكّل العرب الفلسطينيون حوالي 85% من إجمالي سكان الضفة في مقابل 15% من المستوطنين، يصل معدل النمو السكاني لفلسطينيي الضفة إلى 1.86% أي 26 مولودا لكل 1000 فرد في مقابل 1.53% داخل الكيان الصهيوني على الساحل الفلسطيني المحتل أي 18 مولودا لكل 1000 فرد، وتبلغ نسبة من تتراوح أعمارهم من 15 إلى 24 عاما حوالي 21% من الفلسطينيين في الضفة الغربية ونسبة من تتراوح أعمارهم من 25 إلى 54 عاما حوالي 33%، فيما يبلغ معدل الخصوبة 3.33 طفل للمرأة الواحدة في مقابل 2.66 طفل للمرأة الواحدة في الداخل الصهيوني. في مشهد ديموغرافي كهذا، نجد نسبة ممن وُلِدوا قبل الاجتياح الصهيوني للضفة عام 1967 ومن ثم شهدوا في صباهم وشبابهم المرحلة الأولى ثم الذهبية للكفاح الفلسطيني المسلح وهم جيل الآباء، بالإضافة إلى نسبة من الشباب الذين وُلدوا في الثمانينات والتسعينات، ومن ثم شهد بعضهم وشارك في الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي أشعلتها الجماهير في كافة الأراضي المحتلة، ونشأ البعض الآخر تحت اشتداد قبضة الاحتلال وجرائمه بموازاة التفريط الرسمي المتزايد لسلطة رام الله في كافة الحقوق الفلسطينية. بشكل تاريخي، طالما كانت الضفة الغربية بظهيرها الأردني ميدانا لعمل ونفوذ الثورة الوطنية الفلسطينية المسلحة، بالإضافة إلى لبنان وسوريا، ومثّلت المرتكز الجماهيري والشعبي الأول لتلك الثورة داخل نطاق فلسطين متكاملة ًمع مناطق الارتكاز الأخرى في الشتات، مع اشتداد التناقض – ومن ثم ظهور المواجهات المسلحة – بين الفصائل الفلسطينية المسلحة في الأردن والإدارة الأردنية، ثم وفاة جمال عبد الناصر، ثم عقد اتفاقية "كامب ديفيد" فاتجاه حركة "فتح" إلى ما أطلق عليه "الحل السلمي" وتوقيع اتفاقية "أوسلو". أخذ النفوذ الشعبي للقوى الوطنية والتقدمية في الضفة الغربية في الانحسار لصالح سُلطتي الأمر الواقع السياسيتَين أي سلطة "فتح" وسلطة الكيان الصهيوني، ومن بعدهما نسبيا لصالح قوى الإسلام السياسي التي اتجهت إلى استكمال المقاومة المسلحة مما أكسبها بعض المصداقية لدى القواعد الشعبية الضفاوية، وساهم دخول الأموال الأوروبية والأمريكية في تحويل الضفة إلى مجال لأنشطة مدنية ذات طابع ثقافي ترفيهي عوضا عن كونها مجالا للكفاح الفعلي من أجل المقاومة والتحرير، وتحويل سلطة رام الله بصفتها أبرز المُتلقين لتلك الأموال إلى مُنفِذ لسياسات وأهداف الغرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل استمرار الفقر وشُح الموارد وانعدام وجود "اقتصاد" حقيقي بطبيعة الحال. الحقيقة أن واقع انحصار المقاومة ذات السلاح الثقيل في قطاع غزة أدى إلى تبني وإبداع القاعدة الشبابية (القائمة بالفعل والمتزايدة نسبتها بمرور الأعوام وتوالي المواليد) في الضفة لأنماط مبتكرة من الكفاح المسلح، وهم المحرومون من تكوين منظمات مقاومة مسلحة وكبيرة ودعوة مواطنيهم للانخراط فيها بفعل الحصار والاحتلال، ووجود قوة مسلحة أخرى تعمل على منعهم من ذلك لصالح الاحتلال ولصالحها الخاص، فالاحتلال العسكري بالنسبة لهؤلاء واقع يومي قمعي مُعاش وليس عدوا يتواجد عن بُعد ويتبادلون معه التراشق بالصواريخ أو غيرها كما في قطاع غزة، كما أن اعتماد عَيْش هؤلاء الشباب ومعهم من هم أكبر منهم سنا وصولا للكهولة على أنشطة اقتصادية هامشية بالإضافة إلى "معونات" غربية تتولى سلطة أوسلو توزيعها، وما يتخلل ذلك من بطالة وإفقار يسمح لهم بطبيعة الحال وبسهولة، بفرز القوى الفاعلة في المشهد الفلسطيني وولاءاتها، ومن ثم يفتح الباب لمحاولات حسم موقف فاعل من الواقع اليومي الملموس للاحتلال. من هنا بدأت "انتفاضة السكاكين" القائمة على المبادرات الفردية لهؤلاء الشباب، والتي يبدو أن فكرتها ومُنطلقاتها في طريقها إلى تطور تنظيمي ونوعي بالنظر إلى نموذج "باسل الأعرج" ومجموعته، إذ استطاعوا تنظيم أنفسهم والحصول على أسلحة نارية والتدرُب بها. على جانب آخر، فمع بقاء نفوذ الإسلام السياسي بنسبة معتبرة وسط جماهير الداخل الفلسطيني بشكل عام، فإن تراجع مشروع المقاومة المسلحة لحماس أكبر فصائل الإسلام السياسي الفلسطيني وأكثرها حضورا، وانحساره مؤخرا نحو تفاهمات واتجاهات إلى التفاوض، مُضافا إليه ما تلا الانقسام في السلطة الفلسطينية من ضعف لهذا الحضور في نطاق الضفة الغربية وتركزه في غزة، قد دفعا المواطن الضفاوي في اتجاه ثالث مفارِق لاتجاهيّ "فتح" و"حماس"، ومستجيب للتحدي الوجودي اليومي الذي يمثله الاحتلال والاستيطان وتجريف الأراضي والاستيلاء عليها وطرد السكان من بيوتهم وهدمها، خاصة ًوأن المستوطنات الصهيونية في نطاق الضفة تنتشر على هيئة كتل محدودة وجيوب على مساحات من صغيرة إلى متوسطة وغير متصلة بشكل تام، على الأقل حتى الآن، في ظل ضعف سُكاني صهيوني إذا ما أضفناه إلى كثافة سكانية فلسطينية آخذة في التزايد باطراد أكبر منه سنصل إلى معادلة صفرية وجودية يكون فيها إما الفلسطيني أو الصهيوني على الأرض، دون احتمال "واقعي" ثالث، فقط إذا ما توصل الشباب الفلسطيني المقاوِم إلى تكتيكات جديدة ومبدِعة تكفل كسر أو اختراق الحماية العسكرية الحديدية المحيطة بتلك المستوطنات وبالبلدات المحتلة صهيونيا بالكامل، أو تكفل استنزاف العدو وتوجيه ضربات موجعة له تكبده الخسائر وتخصم من قوته.