خلال الأشهر الماضية اشتعلت جبهة الجنوب السوري بمعارك طاحنة بين الفصائل التكفيرية بعضها بعضًا رغم القواسم المشتركة الهامة الكفيلة بجمعهم في خندق واحد، المعارك شهدت عددًا ضخمًا من الضحايا قدمه كل فصيل في مواجهة الفصائل الأخرى بشكل جعل الجبهة الجنوبية التي طالما توارت خلف كواليس الأزمة السورية كجبهة هادئة نسبيًّا بمثابة خريطة مشتعلة شديدة التعقيد لا تقل تركيبًا وعنفًا عن الجبهات الأخرى. هناك العديد من العوامل التي تجعل من الجبهة الجنوبية في الأزمة السورية ليست فقط جبهة مشتعلة لها خريطة نفوذ معقدة ذات تغيرات وانعطافات حادة تحدث طوال الوقت، بل جبهة ذات بُعد استراتيجي فارق بالنسبة للعديد من الأطراف، أبرزها بطبيعة الحال الدولة السورية، ويأتي بعدها الكيان الصهيوني والأردنولبنان، ومؤخرًا داعش، فمحافظتا القنيطرة ودرعا تعدان منطلقًا طبيعيًّا قريبًا من دمشق العاصمة التي يقوم التكفيريون منذ أيام وحتى الآن بمحاولة جديدة لشن هجوم واسع لاقتحامها، كما أنهما تقعان على الحدود السورية الأردنية، حيث تقع غرفة عمليات الموك التي طالما نشطت بفاعلية لدعم التكفيريين تخطيطيًّا ولوجيستيًّا ومع الكيان الصهيوني، حيث طالما قدم لهم الإمدادات والغطاء الجوي الحربي، وعالج مصابيهم في مشافيه، وصولاً إلى التوتر الأخير المتصاعد مع الدولة السورية نتيجة قصفه المتكرر لأهداف عسكرية لها خلال مواجهتها لها عسكريًّا، ومع لبنان وتحديدًا القطاع الجنوبي منه، حيث المرتكز العسكري الطبيعي لقوات المقاومة اللبنانية وحزب الله على البوابة الجنوبيةللبنان والمُطِلة على التهديد الصهيوني الدائم. بدأ الفصل الأخير والحالي من المواجهات بين الفصائل التكفيرية بإنشاء ما يُسمى ب"جيش خالد بن الوليد" في محافظة درعا وجنوب شرق الجولان في مايو من العام الماضي، باندماج كيانات تكفيرية ثلاثة وحلها لهياكلها الخاصة في هيكل واحد جديد: الكيان الأول والمكوّن الرئيسي له هو "لواء شهداء اليرموك" المرتكِز في منطقة حوض اليرموك أقصى ريف درعا الغربي، والذي طالما انخرط منذ أواخر عام 2014 وخلال عام 2015 في قتال "الجبهة الجنوبية للجيش الحر" وجبهة النصرة وأحرار الشام في صراع على مناطق النفوذ، وهو الكيان الذي تمثّلت شرارة توسع نشاطه العسكري الإرهابي في عملية خطفه لأفراد فلبينيين يعملون في قوات الفصل الدولية على الحدود السورية مع الكيان الصهيوني في مارس 2013 ، بموازاة خوضه للعديد من المواجهات المبكرة من عُمر الأزمة السورية مع الجيش العربي السوري الذي استعاد خلال الأعوام الماضية قطاعات عديدة في محافظة درعا. وخاض اللواء معارك أعنف مع التكفيريين الآخرين إلى أن تعرض لانتكاسة كبرى أواخر عام 2015 حين شنت جبهة النصرة هجومًا كاسحًا على معقله ونقاط ارتكازه العسكرية، تسبب في مقتل قائده وأغلب قادة الصف الأول له. الكيان الثاني والأصغر هو "كتيبة المُثنى بن حارثة قاهر الفُرس" والتي اُنشِئَت عام 2012 في ريف درعا الغربي والمعروفة باسم "حركة المُثنى الإسلامية". انخرطت الحركة في قتال قوات الجيش العربي السوري إلى جانب مثيلاتها من فصائل تكفيرية، إلا أنه مع بدايات عام 2015 اندلعت بينها وبين قوات الجيش الحر معارك عنيفة، أسفرت عن انسحابها إلى أقصى غرب منطقة حوض اليرموك، حيث يتمركز "لواء شهداء اليرموك" الحليف لها والذي وفّر لها مرتكزًا آمنًا إلى جانبه في منطقة سيطرته الكاملة. الكيان الثالث هو "جيش الجهاد" الذي كان يتخذ من مدينة القنيطرة وريفها على الحدود المباشرة مع الكيان الصهيوني مرتكزًا له. تشكّل الجيش من اندماج مجموعات سبعة انشقت عن جبهة النصرة بسبب قتالها للواء شهداء اليرموك سالف الذكر، وحمَل منذ نشأته طابعًا تكفيريًّا أكثر تطرفًا من الكيانات الأخرى المجاورة له؛ مما حدا بالجيش الحر وجبهة النصرة – اللذين تتقاتل قواتهما في إدلب منذ سنوات إلى الآن – باعتباره أحد أذرع داعش، وبالفعل شن كلاهما هجومًا كاسحًا عليه في أعقاب نصبه لكمين ضخم لمقاتلي الجيش الحر خلال توجههم لإحدى المواجهات مع الجيش العربي السوري في القنيطرة في إبريل 2015 ، وشهد هزيمة كبيرة انسحب بعدها إلى منطقة حوض اليرموك، حيث يرتكز "لواء شهداء اليرموك". يستهدف الكيان الجديد إقامة إمارة إسلامية كاملة في جنوبسوريا مستغلًّا التركيز المُكثَف للجيش العربي السوري وحلفائه على باقي الجبهات وانشغاله الدائم، فيما يخص الجبهة الجنوبية، بالدفاع عن العاصمة دمشق في مواجهة المحاولات المتكررة لاجتياحها. يستخدم "جيش خالد بن الوليد" في قراراته الإدارية والتنظيمية المطبوعة الختم الداعشي، وكان اندماج مكوّناته مع بعضها بعضًا بمباركة وبعلم أبي بكر البغدادي رغم رفضه "الإعلامي" الاعتراف بأنه أحد فصائل داعش؛ خشية وضعه على لائحة الاستهداف الأمريكية والدولية، فمن الأفضل بطبيعة الحال أن يتم تصنيفه عالميًّا واقليميًّا على أنه مما يُسمى ب"المعارضة المعتدلة" ، منذ منتصف الشهر الماضي. يخوض الجيش قتالًا عنيفًا مع فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة وأحرار الشام، متمركزًا في منطقة "حوض اليرموك" في ريف درعا الغربي ذات الأهمية الاستراتيجية الفارقة، وقام بنشر مقطع مصور لإعدامات ميدانية قام بها لمقاتلين أسرى من الفصائل الاخرى شملت ذبحهم والتنكيل بهم بعد ربط أيديهم من الخلف في أعقاب نجاحه في الاستيلاء على منطقة "تل الجموع" الاستراتيجية. يحمل وجود هذا الكيان في منطقة "حوض اليرموك" ومحيطها أبعادًا ودلالات هامة، فهو يسيطر على منطقتين حدوديتين كاملتين على الحدود مع الأردن، ويحضر في نقطة التقاء حدود سورياوالأردن والكيان الصهيوني، فضلًا عن لبنان ذات الحدود القريبة، مما يسمح له بلعب دور – قد يكون شرع في لعبه بالفعل – في تخفيف الضغط على داعش تنظيمه الاُم الذي تنحسر سيطرته في الشمال والشرق السوريين يومًا بعد يوم، فالتواجد الداعشي في حلب بدأ في الاختفاء وليس فقط التقهقر تحت ضربات وتقدم الجيش العربي السوري أولًا ثم ما يُسمى ب"قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أمريكيًّا ومعها "قوات درع الفرات" المدعومة تركيًّا، كما أن التواجد في الرقة عاصمته ومعقله بات منحسرًا بشدة مع الهجمات البرية المتوالية لنفس الأطراف، بالإضافة إلى الضربات الجوية الروسية المكثفة. ربما يكون مرتكز داعش في دير الزور شرق سوريا هو الأقل تعرضًا للفناء الكامل وفقًا للمعطيات الحالية، ولكن يبدو أن داعش استطاعت تنويع خياراتها في غفلة من جميع الأطراف بإنشاء رافعة وداعم لها في الجنوب السوري سيُكسِبان داعش مزية استراتيجية كبرى لم تُتَح لها من قبل، وهي تمكُنها من محاولة اجتياح العاصمة دمشق من جهة الجنوب، بعد أن تحسم معاركها مع باقي الفصائل الجنوبية، بدلًا من الانعدام المستمر لقدرتها على الحسم في مواجهة الدولة السورية؛ نظرًا لوقوع مناطق ارتكازها في الأطراف الصحراوية السورية بعيدًا عن مركز الحكم والدولة، كما سيكفل تواجد داعش في الجنوب السوري كما ذكرنا تعاونًا مفيدًا مع جيش الاحتلال الصهيوني المرابط في الجولان، والذي ساندت قواته الجوية قوات داعش في مواجهتها مع الجيش العربي السوري بالقرب من "تدمر" منذ أيام، و"هروبًا للأمام" يتيح لها منفذًا احتياطيًّا بعد انهيارها المرتقَب في الشمال والشرق.