الدستور هو أبو القوانين، كانت تلك أول عبارة وعيناها أثناء دراستنا في كلية الحقوق، وفيما بعد عرفنا معنى الدستور وأنواعه وتعريفه، وكل ما يتعلق به من قضايا، ودون الدخول في تفاصيل أكاديمية ليس هنا مجالها، يمكننا القول بإن الدستور هو الوثيقة التي تحتوي على مجموعة من المبادئ العامة المجردة التي تضع الأسس الحاكمة للحياة في بلد ما، فهو من ناحية يحدد طبيعة نظام الحكم، ويؤسس للسلطات الثلاثة التي تقوم عليها سلطة الدولة، وهي السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويحدد مهام وصلاحيات كل منها، ويحدد شكل العلاقة التي تربط بينها وهو من ناحية ثانية يتضمن جميع الحقوق والحريات العامة المستحقة للمواطنين، والتي تشكل في مجموعها درعاً يقي الشعب من بطش السلطة وطغيانها. بكلام آخر، الدستور هو الذي يحدد من يحكم، وكيف يحكم، ويحدد مسؤوليات الحكم، وسلطاته، ونطاق هذه المسؤوليات، وحدودها، ويحدد حقوق المحكوم، وكيفية أدائه لواجباته، وضمانات حصوله على حقوقه، من هنا فإن الدستور هو قضية كل مواطن، لا يجب أن يستقل بها أهل الفقه وحدهم، ولا يجوز تركه في يد مجموعة لتضع القواعد التي تحقق مصالحها هي، لا مصالح جموع المواطنين. السؤال المطروح: هل يمكن تعديل الدستور؟ الإجابة تتحدد حسب نوع الدستور، حيث تنقسم الدساتير إلى دساتير مرنة، وأخرى جامدة، المرنة هي التي يمكن تعديلها بالإجراءات نفسها التي تعدل بها القوانين العادية، أما الدساتير الجامدة فهي التي يتطلب تعديلها إجراءات أشد، لكفالة نوع من الثبات لأحكامه عن طريق تنظيم يجعل تعديله عسيراً، ويحمي نصوصه من العبث والتغيير المستمر، تبعاً لمآرب الحكام أو مصالح القلة الحاكمة. الدساتير الجامدة قد تحظر التعديل نهائياً، أو تحظره لوقت محدد، ويقصد بالحظر الزمني، حماية الدستور فترة من الزمن لضمان تنفيذ أحكام الدستور كلها أو جزء منها تكفي لتثبيتها قبل أن يسمح باقتراح تعديلها، مثلما جاء في دستور سنة 1930 الذي وقف وراء إصداره الملك فؤاد بعدما ألغي دستور سنة 1923 بما كان فيه من مواد تكبل يد الملك عن التدخل في أشياء كثيرة، وجاء الدستور في 1930 ليطلق يده من جديد، وفي مادته الأخيرة (مادة 156) نص على أنه: "لا يجوز اقتراح تنقيح هذا الدستور في العشر سنوات التي تلي العمل به". هذا عن الحظر الزمني، وهناك الحظر الموضوعي ويقصد به، حماية أحكام معينة، بحيث لا يمكن تعديلها، ويكون هذا عادة للأحكام الجوهرية في الدستور، لا سيما ما يتعلق منها بنظام الحكم المقرر، كما فعل الدستور المصري لسنة 1923 الذي حظر تعديل الأحكام الخاصة بشكل الحكومة النيابي البرلماني، ونظام وراثة العرش، ومبادئ الحرية والمساواة، وقد أخذ دستورنا الصادر في سنة 2014 بهذا الحظر الموضوعي وهو موضوع حديثنا اليوم. ** يحق للمصريين أن يفخروا بأن بلدهم كان سباقاً إلى الدخول في معركة طويلة من أجل وضع قواعد عادلة تحكم علاقة الحاكم بالمحكومين، عبر مسيرة طويلة من الكفاح خاضها الشعب المصري تحت عنوان الدستور، وبدأت مسيرة الشعب من أجل الانعتاق من "جعبة الحاكم" بالنجاح في معركة إرغام السلطان العثماني على تولية محمد علي حكم مصر في 9 يوليو عام 1805، وكان مشهدها الأخير مع بدايات القرن الواحد والعشرين، حيث استطاع الشعب من جديد أن يرغم الرئيس محمد حسني مبارك على التخلي عن الحكم. قرنان من الزمان بين مشهد الإطاحة بالوالي العثماني خورشيد باشا، ولقطة إسقاط الرئيس مبارك شهدت مصر خلالهما نضالاً طويلاً للشعب المصري انتهى بإصدار دستور للبلاد سنة 1882 في عهد الخديوي توفيق، ثم ما لبثت سلطات الاحتلال الإنجليزي أن ألغته، ولكن الشعب المصري واصل جهاده إلى أن صدر في 19 أبريل سنة 1923 دستور انعقد على أساسه أول برلمان مصري في 15 مارس سنة 1924. وظل دستور سنة 1923 قائماً إلى أن ألغي في 22 أكتوبر سنة 1930، ثم استطاعت الحركة الوطنية إجبار الملك فؤاد على إعادة العمل بدستور سنة 1923 بعد أقل من أربع سنوات، وبقي قائماً إلى أن قامت ثورة الجيش في 23 يوليو سنة 1952. بعد ثورة "الضباط الأحرار" عرفت مصر الدساتير المؤقتة في 1956 ثم في 1964، وفي 11 سبتمبر سنة 1971 صدر الدستور الدائم، والذي عُدِّل في 30 أبريل سنة 1980 بقرار من مجلس الشعب في جلسته المنعقدة بتاريخ 20 أبريل سنة 1980، لكي يطلق المدد الرئاسية ليفتح المجال لإعادة انتخاب الرئيس السادات لمدة ثالثة، فلم يستفد من التعديل الذي استفاد منه خلفه حسني مبارك فمكث في الحكم ثلاثين سنة. تعديل آخر طال دستور 71 في سنة 2005 لينظم اختيار رئيس الجمهورية بانتخابات مباشرة، فيما عرف بتعديل المادة 76، والتي جرت على إثرها أول انتخابات رئاسية في مصر، وفي 26 مارس سنة 2007 جرى استفتاء بموجبه عُدِّل الدستور مرة أخرى، وأعيد تعديل المادة 76 لكي تنطبق على الوريث نجل الرئيس وحده وكانت بمثابة المسمار الأخير في نعش النظام المتهالك. وفي 25 يناير سنة 2011، هبت جموع الشعب تطالب بإسقاط النظام، ولم يمر أكثر من أسبوعين حتى تحقق للشعب ما أراد، فسقط رأس النظام في 11 فبراير 2011، وبدأت رحلة إسقاط نظامه تتابع خطواتها، بعدما استلم "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" سدة الحكم فقرر المجلس تعطيل العمل بالدستور يوم 13 فبراير سنة 2011. ثم كلف المجلس العسكري لجنة لوضع بعض التعديلات الدستورية، وتم عرضها للاستفتاء على الشعب في 19 مارس سنة 2011، ثم أصدر المجلس في 30 مارس سنة 2011 "الإعلان الدستوري" الذي تضمن التعديلات المستفتى عليها، إلى جانب عدد من مواد الدستور المعطل ليحكم الفترة الانتقالية التي تنتهي بانتخاب مجلسي الشعب والشورى وانتخاب رئيس الجمهورية. ثم جرت محاولة لاختطاف الدستور لتفصيله على مقاس فريق واحد من بين المصريين (جماعة الإخوان وحلفائها) انتهت مع قيام ثورة 30 يونيو سنة 2013، ليتوج الشعب مسيرته الطويلة بأن يضع بنفسه ولنفسه الدستور الذي طال انتظاره في يناير سنة 2014. والسؤال اليوم يطرح نفسه بعد أقل من ثلاثة أعوام على صدوره: هل يسمح دستور 2014 بتعديل بعض نصوصه؟ مثل كل الدساتير الجامدة وضع دستور 2014 طريقاً لتعديل الدستور في مادته 226، حيث أجازت لرئيس الجمهورية، أو لخمس أعضاء مجلس النواب، طلب تعديل مادة، أو أكثر من مواد الدستور، ويجب أن يُذكر في طلب التعديل المواد المطلوب تعديلها، وأسباب التعديل، ويعرض الطلب على مجلس النواب فإذا وافق على التعديل ثلثا عدد أعضاء المجلس، عرض على الشعب لاستفتائه عليه، خلال ثلاثين يوماً من تاريخ صدور هذه الموافقة، ويكون التعديل نافذاً من تاريخ إعلان النتيجة، وموافقة أغلبية عدد الأصوات الصحيحة للمشاركين في الاستفتاء. هذا هو الطريق الوحيد المرسوم لتعديل الدستور، لكن يبقى أن المادة نفسها وضعت مانعاً دستورياً أمام أي تعديل يمس النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أوبمبادئ الحرية، أوالمساواة، ما لم يكن التعديل يتضمن المزيد من الضمانات، وهو الأمر الذي يحول دون أي تعديل يمس الفترة الرئاسية المحددة بأربع سنوات، أو يمس إعادة انتخاب الرئيس إلا لمرة واحدة. وليس من شكٍ في أن أي تعديل لمدة الرئاسة هو بمثابة مد للفترة الرئاسية من دون انتخاب، وحتى إن جاز تعديلها (فرضاً) فلن يستفيد منها الرئيس الذي بدأ فعلاً في فترته الرئاسية المنتخب على أساسها. الخلاصة: نقبكم في تعديل الدستور طلع على شونة شعير..