"تعبتني يا فضيلة الإمام".. بهذه الكلمات، توجه الرئيس السيسي، إبان حديث له عن انتشار ظاهرة الطلاق في مصر، معاتبا شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، في محاولة لاقتناص فتوى منه بعدم وقوع الطلاق الشفوي وضرورة ألا يتم سوى بتوثيقه لدى مأذون شرعي. كان ذلك يوم الرابع والعشرين من يناير الماضي، أثناء احتفالات عيد الشرطة، وما هي إلا أيام حتى أصدرت هيئة كبار علماء الأزهر، برئاسة الطيب، بيانا أقرت فيه وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانه وشروطه، وأكدت أن "هذا ما استقر عليه المسلمون منذ عهد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم"، فيما حذرت المسلمين من الاستهانة بأمر الطلاق، ومن التسرع في هدم الأسرة وتشريد الأولاد. عتاب السيسي للطيب، كشف ما كان مستترا من صراع بين النظام السياسي الحاكم ومؤسسة الأزهر، وبات واضحا احتدام الموقف بين الرئاسة وبعض الهيئات والمؤسسات كوزارة الأوقاف، وبعض علماء الأزهر المقربين من السلطة، في جانب، وبين المشيخة التي يبدو أنها تحاول التمسك باستقلالها في الجانب الآخر. مثّل الأزهر، تاريخيا، دعامة أساسية للوطنية المصرية، وهو ما يتضح عبر الحركة الوطنية منذ ثورتي القاهرة الأولى والثانية في عهد الحملة الفرنسية أواخر القرن التاسع عشر، مرورا بدور الأزهر مع الثورة العرابية، حيث كان لمشايخ الأزهر دور كبير في مواجهة الخديو توفيق، وكان منهم قيادات للثورة نفسها أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الله النديم، كما كان لعلماء الأزهر دورهم البارز في ثورة 1919 وإعلاء قيمة المواطنة، وإعلان وحدة الهلال مع الصليب. الأزهر وعبد الناصر بارك الأزهر ثورة يوليو وأيدها، وفي أعقاب حادث المنشية عام 1954، الذي شهد محاولة اغتيال الإخوان للرئيس جمال عبد الناصر، أصدرت هيئة علماء الأزهر بيانا استنكرت فيه انحراف جماعة الإخوان المسلمين، التي وصفتها بالعصابة الخارجة على منهج القرآن في الدعوة، وجاء في البيان، طبقا لكتاب "الأزهر بين اتجاهين: القومي والإسلامي" للباحث أحمد عادل أبو سعدة: "قد شذ من هذه الجماعة نفر انحرفوا عن الجادة وسلكوا غير ما رسم القرآن فكان منهم تآمر على قتل الأبرياء وترويع الآمنيين وترصد لاغتيال المجاهدين المخلصين وإعداد العدة لفتنة طائشة لا يعلم مداها في الأمة إلا الله". في عام 1961، ومع صدور قانون تطوير الأزهر وتحويله إلى جامعة تدرس العلوم المدنية مع العلوم الشرعية كالهندسة والطب والعلوم، وقع صدام محسوس بين الرئيس عبد الناصر وبين الأزهر، وكان عبد الناصر يستهدف بشكل أساسي مواجهة النشاط التبشيري في إفريقيا، وكانت فكرته قائمة على أن يبعث إليهم الأطباء والمهندسين والمدرسين الأزهريين، ليقوموا بالدورين معا: الدعوة، وتلبية احتياجات الناس، كما كان يريد أيضا مواجهة النشاط الإسرائيلي المتزايد داخل إفريقيا، لكن شيوخ الأزهر عارضوا مشروع التطوير، في البداية، ليس بسبب رؤيته وأهدافه، لكن لأن القانون الجديد أخضع الأزهر كمؤسسة، بشيخها وعلمائها، لمجلس الوزراء، وهو ما كان يحد من استقلالية المؤسسة الكبيرة كمنارة للعالم الإسلامي. ورغم أن الأزهر اضطر لمواءمة سياسية في تلك الفترة، ما جعله يتماشى قليلا مع توجهات السلطة وقتها، إلا أنه فيما يتعلق بالأمور الشرعية والدينية لم يقبل أن يقف عاجزا، على سبيل المثال، حينما نشرت جريدة الأهرام القومية فصولا من رواية "أولاد حارتنا" للكاتب نجيب محفوظ، إذ رأت مؤسسة الأزهر وقتها أن الرواية خادشة للحياء والقيم الدينية والإسلامية، وخاض الأزهر معركة كبيرة كي يمنع نشر فصول الرواية على صفحات الأهرام التي كان يرأس تحريرها محمد حسنين هيكل، صديق عبد الناصر، والمقرب من السلطة، وخاضت مؤسسة الأزهر الصراع لآخره، باعتبار أن الأمر يتعلق بالدين والشرع وليس السياسة، وكسب الأزهر قضيته في المحكمة بمنع نشر فصول الرواية في الأهرام، إلا أن هيكل، استبق الحكم ونشر كل فصول الرواية قبل أن تصدر المحكمة حكمها بمنع النشر. يقول الباحث أحمد عادل أبو سعدة، في كتابه، إنه بعد النكسة واءم الأزهر في سلوكه الديني والسياسي بين الإسلام الذي يمثله وبين القومية العربية، التي كان النظام يحمل مشروعها، حيث أدى الأزهر دورا تقريبيا حاول من خلاله المحافظة على انتمائه للإسلام، مقابل تقبله للقومية كهوية للدولة، وقدم دورا تكامليا في العلاقة مع السلطة. ويرى الباحث أن الأزهر تم إضعافه وإلحاقه بركب السلطة ليصبح أداة لتبرير قراراتها وإصباغها بالشرعية الدينية، بإصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر رقم 103 في 22 يونيو 1961، والذي استهدف ضبط إيقاع المؤسسة الإسلامية الكبرى مع أداء النظام السياسي الناصري وطموحاته الداخلية والخارجية. مع السادات خلال عهد الرئيس السادات، كان الأزهر قلبا وقالبا مع السلطة؛ ففي بداية عام 1971 حدث شيء لم تكن له سابقة من قبل في تاريخ الأزهر، حيث اتفق الملك فيصل، ملك السعودية، مع شيخ الأزهر وقتها الإمام عبد الحليم محمود، على تمويل الأزهر باعتمادات تصل قيمتها إلى مائة مليون دولار، لكي يتولى شيخ الأزهر قيادة حملة دعوة ضد الشيوعية والإلحاد، ويقول حسنين هيكل، في كتابه "خريف الغضب"، إن شيخ الأزهر وقتها وضع برنامجا إعلاميا كبيرا، وكتب بنفسه عدة كتب عن الشيوعية، ثم رتب لترجمة بعض الكتب في نفس الموضوع، كان بينها كتاب "الإله الذي هوى"، كما تم بناء مساجد جديدة وصرفت مبالغ كبيرة على سفر وفود دينية تحمل تلك الدعوة بأموال الملك فيصل، وبمباركة من السادات نفسه. في تلك الفترة كاد دور الأزهر الدعوى يتلاشي نسبيا بسبب زيادة موجة تيارات الإسلام السياسي "الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية" التي كانت تغزو المساجد، وكل منها يبشر بأفكاره، فبدأ دور إمام المسجد الأزهري يتلاشى شيئا فشيئا، وتم اختزال علماء الأزهر في أسماء معدودة كانت تقود الدعوة بين الناس، على رأسهم الشيخ محمد متولي الشعرواي. وبعد وفاة الشعراوي، اكتشف الأزهر أنه لا يملك عددا كافيا من العلماء يملأون الفراغ الذي تركه الشعراوي بين الناس كعالم ديني جليل "معجزة عصره"، فأخذ الأزهر يبحث عن شخصيات تمثل الدين الوسطي، وفي نفس الوقت تمتلك من الجماهيرية ما تجعل الناس يثقون في المؤسسة العريقة، لكن ذلك أخذ وقتا طويلا، ما ساعد السلفيين والإخوان المسلمين على الانتشار أكثر في المساجد، وغاب معها الشيخ الذي يمثل الأزهر بفكره الوسطي. وظهرت موجة الدعاة الجدد ومنهم المتشددون "السلفيون" والوسطيون لكن بأفكار سياسية "الإخوان المسلمون"، ووجد المواطن المصري نفسه يسير بين هذه الموجات، وعزز من ذلك غياب شبه تام للأزهر، خصوصا في أواخر عهد مبارك، وقت أن كان الدكتور سيد طنطاوي شيخا للأزهر. بعد ثورة يناير بعد ثورة يناير، فُتحت الساحة أكثر للتيارات السلفية والإخوان المسلمين كي ينشروا أفكارهم بين المواطنين، وأصبح المسجد لفترة تجاوزت 3 سنوات مكانا للعراك السياسي وليس مكانا للدعوة أو التعبد. هذه الحالة أدرك تفاصيلها الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر وفطن لها، فحاول أن يعيد للأزهر دوره الذي كان عليه كرمز للدين الإسلامي، وجاهد لكي يجعله مستقلا عن أي سلطة أو توجه سياسي، مهتما بدوره الدعوي في مصر والعالم، وكانت تلك هي الرؤية التي اختلف معها النظام الحالي الذي أراد من الأزهر أن يعظ الناس "بنكهة وطنية سياسية داعمة له"، وهذا ما رفضه الطيب في كل معركة خاضها مع السلطة. الطيب، حمل على عاتقه استقلال الأزهر عن السلطة التنفيذية، ووقت ثورة يناير ضغط على المجلس العسكري لإصدار قوانين وتشريعات تضمن عدم المساس بمنصب شيخ الأزهر وسعى لتحصينه، وأصبح منصبه مستقلًا لا يقبل العزل، وأن يُختار شيخ الأزهر من بين هيئة كبار العلماء، ويعامل معاملة رئيس الوزراء من حيث الدرجة والراتب والمعاش. الثابت في كل المعارك التي خاضها الأزهر، خلال أكثر من مائتي عام مضت، أنه كان فاعلا في أوقات كثيرة ويقود الوطن في ظروف حالكة، وإن كان في بعض الأحيان اضطر للتمسك بدوره الديني مع مواءمات سياسية مع هذه السلطة أو تلك، على ألا يتورط في مواءمات دينية أو شرعية تفقده مصداقيته في العالم الإسلامي، بمعنى أنه من الممكن أن يرفض قرارا سياسيا من نظام بعينه ويوائم أموره إما بالتجاهل أو بالتواجد على استحياء من خلال بيانات يصدرها، لكن إذا تعلق الأمر برؤية الأزهر الدينية والشرعية فإنه سيعادي الجميع كي يحافظ على المقومات الأساسية للشريعة الإسلامية.