منذ إنشائه حتى الآن تباينت علاقة الأزهر الشريف بالأنظمة السياسية التي تعاقبت عليه، فتارة تصادم وتارة أخرى تقارب وتارة ثالثة اتفاق في وجهات النظر، وعبر كل نظام حكم شهدته مصر كانت المشيخة حاضرة بقوة استناداً إلى أهمية العامل الديني فى اتخاذ القرار السياسي المصري. وخلال الاحتفال بذكر مولد الرسول طالب الرئيس عبد الفتاح السيسي بضرورة وضع خطة زمنية لتجديد الخطاب الديني منتقداً دور المؤسسات الدينية فى هذا الأمر ووجه خطابه إلى الدكتور أحمد الطيب، قائلًا: "أنا بقول لفضيلة الإمام كل ما أشوفه أنت بتعذبني، فيقولى أنت بتحبنى ولا لأ.. ولا حكايتك إيه؟"، مضيفًا: "أنا بحبك وبحترمك وبقدرك وإياكم تكونوا فاكرين غير كده تبقى مصيبة، أنا بحب الإمام وعارف دور الأزهر ومقدره كويس في مصر والعالم كله". وجاءت هذه الكلمات رداً على شائعات الخلاف بين الإمام والرئيس فى الفترة الأخيرة. وتستعرض "الموجز" فى هذه السطور علاقة شيخ الأزهر برؤساء مصر عبر العقود الماضية. تجديد الخطاب الديني علاقة جيدة ربطت بين الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وبين عبدالفتاح السيسي منذ توليه رئاسة مصر حتى الآن، حيث سعي الرئيس لتصحيح صورة الإسلام وتنقيتها مما علق بها من أفكار مغلوطة، فضلاً عن التعريف بصحيح الدين، في ظل انتشار التيارات التكفيرية والمتطرفة خاصة جماعة الإخوان الإرهابية. ودائماً ما يؤكد الرئيس على دعم الدولة الكامل لمؤسسة الأزهر الشريف العريقة، جامعاً وجامعة، مشيراً إلى أهمية الاستمرار في تقديم النموذج الحضارى الحقيقى للإسلام، فى مواجهة دعوات الغُلو والتطرف، وذلك من أجل الحفاظ على الصورة الحقيقية للدين الحنيف، ومواصلة مسيرة التنمية. رضا "السيسي" عن "الطيب" لم يستمر طويلًا، خاصة بعد أن ظهر عدم ارتياح الرئاسة لأداء المؤسسة الدينية، من موقف الأزهر من تجديد الخطاب الديني الذي دعا إليه الرئيس خلال أحد خطاباته منذ فترة طويلة، حيث لم يحدث شيء إلَّا تنظيم مؤتمرات واجتماعات لبحث الأمر دون ترجمة الأمر على أرض الواقع، مما أدى إلى ترديد البعض لشائعات تفيد بوجود أزمة بين الطرفين. علاقة جيدة وفي عهد الرئيس المؤقت، المستشار عدلي منصور، كانت العلاقة بينه وشيخ الأزهر جيدة، خاصة أنَّ الفترة التي قضاها "منصور" في الحكم لم تكن كبيرة، حيث أصدر الأزهر بيانًا أكد فيه أن الرئيس أدار البلاد في المرحلة الانتقالية باقتدار وكان مثالًا للعدالة والنزاهة والتفاني والإخلاص، موضحًا أنَّ الدور الوطني المشرف الذي اضطلع به عدلي منصور بعد ثورة 30 يونيو سيظل محفورًا في ذاكرة التاريخ تتذكره الأجيال جيلًا بعد جيل. توتر وتأزم لم تكن علاقة الرئيس المعزول محمد مرسي مع الأزهر على ما يرام، حيث حاولت جماعته النيل من "الطيب" وإجباره على الاستقالة، وتعيين إخواني بدلًا منه، وبناءً عليه كان شيخ الأزهر يرفض حضور خطابات "مرسي" لأنها كانت تشهد هجوماً شديداً على المصريين وتتضمن إهانات بالغة لهم، فلم يحضر خطاب تنصيب مرسي في 30 يونيو 2012 حيث تم معاملته بشكل غير لائق وشعر وقتها أن عدم تخصيص مقعد له في المكان المناسب، متعمد لاهانته، فقال لمن فعلوا ذلك "أنتم تحتفون بالجميع وتعاملون شيخ الأزهر بهذه المعاملة" ولذلك انسحب وسارع بالمغادرة فهرول وراءه كل قيادات المراسم ورفض الاستجابة لهم للعودة وحضور الحفل. وقال "الطيب" إنَّه خاض معارك شرسة ضد الإخوان الذين كانوا يسعون بالطرق والوسائل كافة للسيطرة على الأزهر وإخضاعه لهم، ولقد تحسبنا للأمر وتخوفنا من سيطرة الإخوان وأصدرنا قانونًا من المجلس العسكري الحاكم بعد ثورة يناير بأن يتم اختيار شيخ الأزهر من كبار رجال العلماء واستطعنا الحصول على موافقة المجلس على القانون قبل انعقاد البرلمان بيوم واحد حتى لا يستغل الإخوان الأمر ويسيطرون على الأزهر وكانوا قد اختاروا شيخًا بديلًا له. وهدَّد "الطيب" بالاستقالة في حالة المساس بقانون الأزهر بعد وصول "مرسي" للحكم حيث حاول الإخوان السيطرة على جامعة الأزهر أيضًا من خلال القيادات الرئيسية وعطل الرئيس المعزول الموافقة علي ترشيحات مشيخة الأزهر للجامعة ورفضها دون أي سبب يذكر وظلت الجامعة 8 شهور كاملة دون اعتماد النواب الثلاثة المرشحين مما دفع "الطيب" للتهديد بتقديم استقالته وبعدها شعر الإخوان بالخوف من أن يتحملوا مسؤولية استقالة شيخ الأزهر. واستكمالًا للمعارك التي خاضها "الطيب" مع "الإخوان"، قال إنَّ المعركة الثانية مع الإخوان كانت في اختيار المفتي، حيث حاولوا فرض أشخاص بعينهم لكنني رفضت بكل قوة وعندما تقدَّم المفتي الحالي الدكتور شوقي علام ومعه مرشح إخواني، حصل مرشح الإخوان على صوت واحد فقط بينما حصل المفتي الحالي على 22 صوتًا وتعمدت إعلان النتيجة قبل إبلاغ "مرسي" بها، مضيفًا أنه في الوقت الذي كان يعاني فيه أبناء الأزهر من مشاكل متعددة كان طلاب الحركات المتطرفة يسعون إلى استقطاب الطلاب الأزهريين ولم يكن هناك تحرك جدي لسد هذا الاختراق ووصلت الأمور للذروة بعد تشكيل مليشيات داخل الأزهر مضيفا أن الأزهر وقف مع القيادة العسكرية ومساندة الثورة الشعبية في 30 يونيو من أجل الشعب. وقبل ذلك وفي أعقاب سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، في فبراير 2011، أتاح الفراغ السياسي والاجتماعي في مصر للأزهر الإفلات قليلًا من سيطرة الدولة، ومع أنّ الأزهر كان بعيداً عن تفاصيل السياسة المصرية، إلا أنّه كان لا يزال جزءً من الدولة المصرية، واستغلّ السياق السياسي الجديد للضغط من أجل مزيدٍ من الاستقلالية. وبعد ثورة يناير شكّل الأزهر موقفاً مناهضاً للأحزاب السياسية الإسلامية الصاعدة، ومن ضمنها حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين، وحزب النور التابع للدعوة السلفية، وخلافاً للإخوان، كان الأزهر مهتمًا بالشقّ الأكاديمي، ولم ينغمس في السياسة. وخلال فترة حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، واصل النظام طريقة النظم السابقة في إدارة الأزهر بتوظيف المؤسسة في صالح الاستقرار، واستتباب الأمن الذي كان يؤول في نهاية المطاف إلى دعم الحكم وتثبيت الحاكم، فعيَّن "مبارك" الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخًا للأزهر وهو رجل فقه وقضاء محافظ في مواقفه وفتاواه. مجاراة السلطة تولى الدكتور محمد سيد طنطاوي مشيخة الأزهر عام 1996، وعرف بمجاراته للسلطة السياسية في مواقفها، وتراجعه عن أي رأي أو فتوى كان قد أصدرها إذا لم تلق قبولًا لدى السلطة، فوجهت له انتقادات شديدة، خاصة من وسائل الإعلام، وصلت إلى حد المطالبة بعزله، لاتخاذه مواقف أعادت طرح علامات استفهام حول استقلالية مشيخة الأزهر عن السلطة. ومن أبرز مواقف "طنطاوي" إصداره لفتوى في 8 أكتوبر 2007 تدعو ل"جلد صحفيين" بسبب نشرهم أخبارًا تتحدث عن مرض الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكذلك مشاركته إلى جانب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في يوليو 2009 بكازخستان وجلوسه معه على نفس المنصة، مما أثار موجة غضب داخل مصر وصلة لحد المطالبة بعزله. تلويح بالاستقالة تولى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق المشيخة فى الفترة من 1982 إلى 1996 وكان شديدًا فى قول الحق، لذا اصطدم بالرئيس الأسبق حسنى مبارك الذي طلب منه أن يستصدر فتوى بإباحة فوائد البنوك وأن تصدر فتوي رسمية من الأزهر بذلك حيث أن المشيخة كانت تفتي بحرمانيتها تمامًا في ذلك الوقت. وقد أوعز بعض المقربين لمبارك أن الناس لا تضع أموالها بالبنوك بسبب فتوى الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر آنذاك، فقال مبارك في أحد اجتماعاته مع بعض المشايخ ووزير الأوقاف موجهاً حديثه للشيخ جاد: "بقولك إيه يا مولانا؛ البنوك قربت تفلس والناس مبيحطوش فلوسهم في البنوك؛ عايزين فتوي من فضيلتك تنقذ الاقتصاد المنهار وتحلل وضع الفلوس في البنوك لأن الناس بتضع كل ثقتها في الأزهر ودي ضرورات برضه"، فما كان من شيخ الأزهر إلا أن انتفض واقفاً وقال لمبارك بغضب شديد: "ومن قال لك أني أحرم أو أُحلل؟ إن الذي يُحلل أو يُحرم هو الله ولن تتغير فتواي أبداً أبداً بتحريم فوائد البنوك". ل"جاد الحق" أيضاً موقف مشهود عندما خاض معركة شرسة فى مؤتمر السكان الدولي الذى انعقد بالقاهرة عام 1994، ضد بعض البنود الواردة فى مسودة إعلان المؤتمر، وقال: إن مصر بلد الأزهر لن تصدر بها قرارات تناهض الأديان وتعتدى على الكرامة الإنسانية، وكان من هذه البنود؛ إباحة العلاقات الجنسية الشاذة بين الرجل والرجل، وبين المرأة والمرأة، وإباحة حمل العذارى الصغيرات والحفاظ على حملهن، وإباحة إجهاض الزوجات، وقد تصدى الشيخ جاد الحق لها، وأصدر بيانًا من مجمع البحوث الإسلامية، رفض فيه هذه القرارات. هناك أيضاً موقفه من مسابقة ملكات جمال النيل، بعدما نشر فى جريدة الأهرام إعلان عن هذه المسابقة، وكتب الشيخ مقالًا فى ذات الجريدة يقول فيه: أوقفوا هذا العبث الذى يسىء للإسلام. تجنب الصدام تولى الدكتور محمد عبدالرحمن بيصار، مشيخة الأزهر خلال الفترة من 1979 إلى 1982، ونادى بعدم معارضة الحاكم إلَّا فى الأمور الجوهرية، وسعى إلى تجنيب الأزهريين أى صدام مع السلطة، بعد قرارات سبتمبر 1981 التى زج "السادات" بمقتضاها بكل معارضيه فى السجن. تقليص دور المشيخة في عام 1974 قرر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، تقليص صلاحيات المشيخة حتى يضمن تمرير بعض القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية التي اعترض عليها شيخ الأزهر في ذلك الوقت الدكتور عبد الحليم محمود لعدم ملائمة بعض موادها للشريعة الإسلامية، فما كان من الشيخ إلَّا أن قدم استقالته قائلاً: "إنى أرفع كلمة الحق؛ أقولها بصوت عالٍ وأكتبها بالخط العريض، لا بد من تقنين شريعة الله" الأمر الذى أحدث دوياً هائلاً فى مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامى، مما أجبر "السادات" على تغيير موقفه وإعادة الأمور إلى سابق عهدها، ونجح الشيخ عبدالحليم حتى وفاته فى عدم خروج هذه القوانين للنور. و"السادات" نفسه هو من قام بتعديل درجة شيخ الأزهر من وكيل وزارة إلى رئيس وزراء، بسبب الشيخ عبدالحليم محمود والذى أصر الجنرال محمد ضياء الحق رئيس باكستان الأسبق على استقباله على سلم الطائرة عند زيارته لإسلام أباد، رغم كون شيخ الأزهر آنذاك بدرجة وكيل وزراء، ولما قال له مستشاروه أن فى هذا مخالفة للبروتوكول الرئاسى رد عليهم الجنرال بقوة: "إن الأزهر فى العالم كله أزهر واحد، ولا يوجد سوى إمام واحد هو الإمام عبد الحليم محمود"، وعندما عاد الإمام الأكبر ونقل الصورة إلى "السادات" أصدر قراره بتعديل درجة شيخ الأزهر من وكيل وزارة إلى رئيس وزراء. الدفاع عن الاشتراكية تولى الشيخ حسن مأمون مشيخة الأزهر في الفترة من 1963 إلى 1969، بعد استقالة الشيخ محمود شلتوت، فكان من المدافعين عن القوانين الاشتراكية التى كان يسنها عبدالناصر، حتى أنَّه وصف الإخوان المسلمين في إحدى خطبه بأنَّهم "مجرِمون". معارضة ناصر وقف الشيخ محمود شلتوت، الذى تولى المشيخة فى الفترة من 1958 إلى 1963، فى وجه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، اعتراضًا على قراره بإنشاء وزارة لشئون الأزهر تحد من استقلالية مشيخة الأزهر، ووصل الأمر إلى استقالته من منصبه عام 1963 متعجبًا من موقف "ناصر" الذي سبق وأن اتخذ من الأزهر منبرًا له عام 1956 أثناء العدوان الثلاثى على مصر ليقول للعالم: "إذا كانت بريطانيا بتعتبر أنها دولة كبرى، وفرنسا بتعتبر أنها دولة كبرى، إحنا شعب مؤمن؛ هيكون شعارنا دائماً الله أكبر، الله يقوينا، والله ينصرنا"، حيث فضل أن يكون الأزهر هو الشاهد على خطبته التاريخية أثناء العدوان الثلاثى على مصر.