عرفت بعض الدول النامية ظاهرة الدولرة عبر استبدال عملتها المحلية بالدولار الأمريكى (كليًا أو جزئيًا)، حيث فقدت سيادتها النقدية بشكل تدريجى، وورثت العملة الأمريكية وظائف العملات الوطنية الأساسية: كوسيط للتبادل، ووحدة للقياس، ومخزن للقيمة. وقد تتخذ هذه العملية صورًا مختلفة، تبدأ من التسعير بالدولار لبعض السلع والخدمات، مرورًا بالادخار أو الاقتراض بالدولار، وصولًا إلى التخلى الكامل عن العملة الوطنية. وقد تعددت الدراسات الدولية التى تناولت مساوئ الدولرة منذ مطلع الألفية الحالية، حيث خلصت أبحاث «تشانج وفلاسكو» فى ورقتهم المنشورة عام 2002 عن مكتب الأبحاث الاقتصادية الأمريكى إلى أن الدولرة ليست قرارًا سياديًا يُتخذ فى لحظة، بل هى عملية انسيابية تبدأ من تآكل فاعلية السياسة النقدية بفعل التسعير بالدولار فى قطاعات رئيسة. وتضيف ورقة لصندوق النقد الدولى أن الاقتصادات التى تتوسع فى «التسعير بالعملة الأجنبية» دون أن تعلن الدولرة رسميًا، تفقد تدريجيًا أدوات إدارة التضخم، لأن الموجات السعرية المستوردة من الخارج تصبح أقوى من أدوات السياسة الداخلية، فينقلب السعر العالمى من متغير خارجى إلى محدِّدٍ مباشر لمستوى الأسعار المحلى. وإذ لم تعرف مصر (عبر كل مراحل تعاونها مع صندوق النقد الدولى منذ سبعينيات القرن الماضى) الدولرة بالمعنى الكامل أو الجزئى الذى عرفته اقتصادات أمريكا اللاتينية أو أوروبا الشرقية، فالجنيه ظل عملة التداول والادخار والتسعير الأساس، ولم يُسمح للدولار أن يحتل مكانه فى العقود أو الأسواق المحلية. لكن ما جرى مؤخرًا من ربط مستتر شبه آلى بين أسعار المحروقات وسعر الصرف، يمثل نقلة خطيرة فى اتجاه «دولرةٍ مقنّعة»، إذ يسمح لقنوات العدوى المالية أن تنقل عنصر التقلبات الخارجية مباشرة إلى قلب هيكل الأسعار المحلية، فيرتفع أثر تمرير سعر الصرف إلى التضخم، وتتآكل تدريجيًا القدرة الشرائية للجنيه. هذه الآلية لا تعنى فقط فقدان السيطرة على تكلفة مواد الطاقة، بل تمثّل خطوة حاسمة فى مسار الدولرة التدريجية، كما تُظهر تجارب الإكوادور وبوليفياوبيرو فى التسعينيات، حيث بدأ الأمر بربط أسعار الوقود والسلع الاستراتيجية بالدولار ثم انتهى بفقدان شره كامل للسيادة النقدية بالكامل. • • • تبدو خطورة ما يُسمى ب«التسعير الأجنبى الجزئى» فى كونه يمهّد للتحول النفسى والمؤسسى نحو فقدان الثقة بالعملة الوطنية. فحين يعلم المنتج والمستهلك أن الوقود، وهو سلعة رئيسة تدخل فى كل العمليات الإنتاجية والنقلية، مسعَّر فعليًا بالدولار، فإن التوقعات الخاصة بالتضخم تصبح تلقائيًا مرتبطة بتقلبات الصرف الأجنبى، لا بالسياسات النقدية أو المالية المحلية. وبمرور الوقت، تتوسع عدوى الدولرة لتشمل تسعير السلع الوسيطة، ثم الإيجارات والعقارات، وصولًا إلى عقود العمل والمقاولات، كما حدث فى بيرو بين عامى 1992 و1998، حين انتقل الاقتصاد من تسعير وقود بالدولار إلى اقتصاد مزدوج العملة فى أقل من عقد. تشير دراسة «الدولرة المالية فى أمريكا اللاتينية» الصادرة عن صندوق النقد الدولى عام 2006، إلى أن الاقتصادات التى اعتمدت آلية التسعير بالدولار للسلع الحيوية واجهت ارتفاعًا حادًا فى تمرير تقلبات سعر الصرف إلى التضخم، وأن درجة هذا التمرير فى بلدان مثل بوليفيا والإكوادور بلغت ثلاثة أضعاف معدلاتها فى الاقتصادات غير الدولارية. ومع كل موجة انخفاض فى قيمة العملة الوطنية، كانت معدلات التضخم ترتفع بوتيرة لا تتناسب مع الأساسيات، لأن الأسعار كانت «مدولرة» سلفًا، أى مهيأة للتفاعل الفورى مع تغيرات الدولار. هذا النمط هو ما بات يُطلق عليه مصطلح «الدولرة السلوكية»، حين يصبح الدولار معيارًا للقيمة ومرجعية للتسعير حتى دون استخدامه كوسيلة للتبادل. فى الحالة المصرية، قد لا يبدو هذا الخطر مباشرًا فى الأجل القصير، إذ إن آلية التسعير الآلى للمحروقات تهدف مبدئيًا إلى تحقيق الانضباط المالى وخفض عبء ما يسمى بالدعم، لكنها فى جوهرها تنقل التضخم الخارجى إلى الداخل بصورة شبه آلية، وتحدّ من قدرة الحكومة على التدخل لامتصاص الصدمات، وتجعل من الشح الدولارى محليًا سببًا رئيسًا فى تضخم الأسعار حتى ولو لم تتقلب أسعار الدولار عالميًا. فكل انخفاض فى قيمة الجنيه، ولو مؤقتًا، سيقود إلى زيادة فورية فى أسعار الوقود ومنتجات الطاقة، ومن ثم فى تكاليف النقل والإنتاج، ما يجعل التضخم المحلى انعكاسًا لصدمات الصرف لا للطلب أو العرض المحليين. وحين تتكرر هذه الدورة بما يكفى، تفقد أدوات السياسة النقدية فعاليتها، ويغدو رفع الفائدة أو خفضها بلا أثر يُذكر على الأسعار، لأن العامل الحاسم أصبح خارج السيطرة. لقد حذّر الاقتصاديان «تشانج» و«فلاسكو» فى أبحاثهما الرائدة عن أزمات الأسواق الناشئة من هذه الحال؛ حيث أشار نموذجهما إلى أن اتباع سياسات نقدية ومالية متضاربة فى ظل نظام صرف غير ملائم يمكن أن يقود إلى ما يشبه «التخلى العملى عن السيادة النقدية» - أى إن الدولة تفقد السيطرة الفعلية على أدواتها النقدية بينما تظل محتفظةً رسميًا بعملتها الوطنية. وهذا المسار يؤكده الواقع العملى الذى لخّصه الاقتصادى البوليفى «خوان أنطونيو موراليس»، أحد مهندسى برنامج الاستقرار الاقتصادى فى بلاده، حين لاحظ أن «الدولرة تبدأ فى اللحظة التى تشرع فيها الحكومة نفسها بتسعير سلعها الاستراتيجية بالدولار»، فهذه الخطوة لا تعكس فقط انهيار الثقة بعملتها الوطنية، بل تُمهد الطريق عمليًا لفقدان السيطرة على السياسة النقدية. المفارقة أن كثيرًا من الدول التى لجأت إلى هذا النمط لم تكن تستهدف الدولرة، بل كانت تطمح إلى استقرار مالى مؤقت يضمن شفافية التسعير. غير أن النتائج جاءت معكوسة: فمع تكرار الصدمات، اتسع نطاق التسعير الأجنبى، وتراجعت الثقة بالعملة المحلية، ما أدى إلى ارتفاع الدولرة المالية لاحقًا فى الودائع والقروض، كما بيّن تقرير بنك التسويات الدولى عام 2007، حين ربط بين تسعير الوقود بالدولار وتزايد الودائع الدولارية فى الأنظمة المصرفية المحلية. • • • الخبرة اللاتينية تُظهر كذلك أن الدولرة المقنّعة تتغذى على فجوة التوقعات. فعندما يرسخ فى الأذهان أن الأسعار سترتفع مع كل تراجع للجنيه، حتى قبل أن يحدث فعليًا، يصبح الدولار ذاته أداة للتحوّط النفسى قبل أن يكون وسيلة ادخار. وحين تتفشى هذه الذهنية، تنتقل الدولرة من القطاع المالى إلى المجتمع، فتضعف فاعلية أدوات البنك المركزى فى تثبيت التوقعات، ويصبح التضخم ذاتيًّا يغذى نفسه بنفسه. وتلك المرحلة أصعب من أى مرحلة سابقة، لأنها تفقد السياسات الاقتصادية فاعليتها الرمزية والمعنوية، لا فقط أدواتها الفنية. فى المقابل، أظهرت تجارب أخرى أن التحرير الحقيقى لا يعنى نزع الغطاء المحلى عن الأسعار، بل تطوير أداة مؤسسية لضبط التقلبات، فأنشأت تشيلى صندوقًا خاصًا لتثبيت أسعار الطاقة يموّل من فوائض التصدير، لتجنّب الدولرة السعرية دون العودة إلى الدعم الشامل. وهكذا أثبتت هذه النماذج أن المرونة لا تقتضى بالضرورة ربط الأسعار بالدولار، بل القدرة على إدارة المخاطر الخارجية دون المساس بالسيادة النقدية. • • • إن مصر، حتى هذه اللحظة، لم تبلغ مرحلة الدولرة الحقيقية. فجميع تعاملاتها الرسمية، من الضرائب إلى الأجور، لا تزال بالجنيه، وليس ثمة سوق موازية علنية لتداول الدولار فى التعاقدات. لكن المسار الحالى يحمل فى طيّاته مصير الدولرة التدريجية. فحين ترتبط الأسعار الأساسية بالدولار، يتآكل تدريجيًا جوهر «العملة الوطنية» كوعاء للقيمة. وكلما ازدادت حساسية الأسعار لسعر الصرف، تقلّصت قدرة الدولة على تهدئة التضخم عبر أدواتها التقليدية، فيتحول الاقتصاد إلى جسد حساس يتألم لأى هزة فى سعر الدولار، مهما كانت مؤقتة. وعلى الرغم من عدم إقرار آلية تسعير المحروقات فى مصر بالربط الدولارى، فإن تغيراتها الفعلية لا تنبع من أسعار الوقود العالمية بقدر ما تنشأ من تقلبات سعر صرف الدولار خلال فترات المراجعة، وما يترتب على ذلك من ضغوط على الموازنة العامة. ولا تتجلى خطورة هذا المسار إلا فى ضوء ما فقدته الاقتصادات التى تخلت عن عملتها المحلية من سيادة مالية ونقدية. فالإكوادور التى تبنّت الدولار رسميًا عام 2000 ظلت تخسر نحو 4٪ من ناتجها المحلى سنويًا من عائدات طباعة النقود التى كانت تحصل عليها عندما كانت تطبع عملتها الخاصة، ثم أصبحت رهينة للسياسة النقدية الأمريكية التى لا تراعى ظروفها المحلية. وحتى بيرو التى سمحت باستخدام الدولار إلى جانب عملتها فى التسعينيات احتاجت عقدين لاستعادة توازنها النقدى عبر سياسات «التراجع عن التعامل بالدولار» وإعادة التوطين السعرى بالعملة المحلية. تلك تجارب باهظة الثمن ينبغى استيعابها قبل تكرارها فى سياق أكثر هشاشة. إن التحول نحو تسعير المحروقات بالدولار ليس تصحيحًا سعريًا فحسب، بل اختبارًا حاسمًا لقدرة الدولة على الدفاع عن سيادتها النقدية. فالإصلاح الحقيقى لا يتم بتجريد الجنيه من وظيفة التسعير، بل بتعزيز الثقة فيه عبر أدوات استقرار فعّالة تمتص الصدمات بدلاً من تمريرها. والبديل ليس العودة إلى تشوّهات سعرية متراكمة، بل إنشاء آلية مرنة للتسعير المحلى تستحدث صندوقًا لاستقرار أسعار الطاقة، مع العمل الجاد على تحسين أدوات إدارة الموارد الحرجة وتخطيط الطاقة وتحسين كفاءة الإنتاج والتوزيع، على النحو الذى يعالج أزمة الطاقة من منبعها. كاتب ومحلل اقتصادى