أول ما سمعت الرئيس السيسي يردد: احنا فقرا قوي، فقرا قوييي، فقرا قويييييي، امتلكتني غصة في القلب، وابتدرتني كلمات الأغنية الشهيرة التي يترنم بها عم محمد عبد المطلب بأحلى ما يكون الطرب وأجمل ما يكون الإحساس مع تحريف بسيط يناسب حالة الحزن التي تفوح من كلمات السيسي، وظل يتردد داخلي أن : "الناس الفقرا ما يعملوش كده، دول مهما اتألموا، بيداروا ويكتموا، ولا يوم يتكلموا، ويشمتوا العدا". نزل بنا السيسي من حالق على جدور رقابنا مرة واحدة وهو يصرخ فينا بعصبية وزهق بادٍ على تعبيرات وجهه، والغضب الذي اكتست به ملامحه وهو يؤكد ويضغط على كل كلمة وكل حرف: احنا فقرااا قويييييي؟، وكنت أعرف أن هذا المقطع سوف يتم " الألش" عليه في وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة منقطعة النظير، وهو ما حدث بالفعل فور انتهاء مداخلات السيسي، ومن ناحيتي توجهت إليه بسؤال استنكاري في بوست نال إعجاب المئات وتم تشييره بالمئات أيضاً: قلت فيه: "محدش قال لك إننا فقرا قوي قوييي قويييي قبل ما ترمي فلوسنا في تفريعة القناة".!! ولكن قبل " الألش " وبعده، تبقى هناك أسئلة مشرعة، ومشروعة، حول "الفقر اللي احنا فيه"، والذي تبدى مجسماً في كلمات السيسي الغاضبة والصارخة. سؤال افتتاحي: لماذا يحكم الأغنياء هذا البلد الفقير، ويتحكم في سياساته المليارديرات وأصحاب التوكيلات الأجنبية والمحاسيب والمرضي عنهم من أجهزة الأمن والحكم؟ السؤال الأهم والأولى بالرد من جانب حكومة السيسي هو : كيف جمع المصريون الفقراء في ظرف أسبوع 65 مليار جنيه؟، وأين صرفت هذه المليارات، وما هو مردودها على تقليل حجم الفقر الذي تعاني منه البلد ويعاني منه المصريون؟ سؤال آخر: ما هي علاقة العاصمة الجديدة، والمليارات التي تصرف فيها، والديون التي تتراكم على مصر بسببها، بإمكانية أن ننعتق من هذا الفقر الذي نحن فيه، وبماذا يفسر جهابذة الحكومة الجبارة أن مصريين اشتروا عقارات في "دبي" بمبلغ 13 مليار جنيه، ولماذا لم تتوجه هذه الأموال المصرية إلى الاستثمار العقاري في العاصمة الإدارية الجديدة؟ وسؤال مقلق: لماذا يحسب فقر مصر على شعبها، ولا يحسب على جيشها وشرطتها وقضاتها ووزرائها وكبار مستشاري الوزراء فيها؟ لماذا تثبت أجور العاملين في الدولة ولا تزيد إلا في حدود وبطلوع الروح، وكل شهرين ثلاثة نسمع عن زيادات في رواتب ومخصصات الجيش والشرطة والقضاء، هل هؤلاء يأخذون حقوقهم من "مصر الغنية" بينما تستطيع "مصر الفقيرة" أن ترفع الحد الأدنى للأجور لتستوعب كل هذا الفحش في غلاء الأسعار؟ البلد الفقير لا يرمي كل هذه المليارات في شق تفريعة القناة بدون دراسات جدوى جادة وعلمية ومدروسة، ولا تهدر كل هذه الأموال في مشروعات تقلل فقر البلد وتزيد من غناه واستغنائه عن الخارج. البلد الفقير تقل فيه مصاريف " الأبهة" والفشخرة و"الريد كاربت"، والخيام المكيفة، وتكثر فيه مصاريف بناء الاقتصاد الوطني الذي يعتمد على ذاته وقدراته وبعظم من فوائده ويقلل من خسائره. لا أريد أن أسأل: وكيف يتأتى لبلد فقير أن يشتري ثلاثة سيارات لثلاثة أشخاص ب 18 مليون جنيه؟ وللذكرى فقط أذكر بأنه من حوالي خمسين سنة لم تكن مصر بهذا الفقر ولم تكن مكبلة بكل هذه الديون وتخوض تجربة تنموية خاصة استطاعت خلالها أن تصل نسبة النمو إلى 6% وهي نسبة لم تحدث من قبل ولا من بعد، كان الوزير يحصل على بنزين سيارته الحكومية عبر كوبونات تصرف له ويحاسب عليها، وكان ملزماً برد ما يتجاوز خط سيره المعتمد، لم تكن مصر غنية ولكن كانت الإدارة رشيدة. الفقر فقر إدارة وإرادة، وليس فقر موارد أو فقر أموال.. الفقر فقر إرادة حرة، وإدارة رشيدة.. الفقر فقر سياسات متخبطة، وأولويات ضائعة، وانحيازات مرتبكة.. اليابان من بلاد الله الفقيرة في الموارد والغنية بالإرادة والإدارة الرشيدة، صارت واحدة من الاقتصاديات الكبرى في العالم، الصين التي يبلغ عدد سكانها حوالي 20 % من عدد سكان العالم حولت مشكلتها السكانية إلى ميزة تنافسية، واستطاعت أن تكون في مقدمة الاقتصاديات العالمية وتنافس الدول العظمى، وصارت أكبر دولةٍ مُصدِّرة في العالم. لم تركن اليابان إلى فقر مواردها ولا عيَّرت حكوماتها الشعب الياباني بفقره وقلة موارده، وضعف ثرواته الطبيعية، وصارت أفضل ألف مرة من دول تفوقها بما لديها من موارد وبما يتكدس في أرضها من ثروات طبيعية. ولم تركن الصين إلى الانفجار السكاني الذي لا مثيل له في العالم كله، ولا عيَّرت حكوماتها الشعب الصيني بمشكلته السكانية، وصارت أفضل ألف ألف مرة من دول لا يبلغ عدد سكانها سكان "كومباوند" صغير على طرف ضيعة صينية، ولديها من الثروات الطبيعية ما يغني عشر دول كثيفة السكان. هكذا يفعل الناس الفقراء، وهكذا تتحرك الدول الفقيرة. الناس الفقراء لا يقولون وماذا يصنع "التعليم" في الدول الضائعة. الناس الفقراء يصرفون على تعليم أبنائهم ويقطعون من ميزانياتهم الحياتية ويتقشفون في معيشتهم لكي يصنعوا الفرصة أمام الأجيال الجديدة للتعليم والترقي والنهوض. الناس الفقراء يصرفوا دم قلبهم على تعليم ولادهم، والبلد الفقير يفعل ذلك وأكثر. ماليزيا وتجربتها ماثلة أمام أعيننا أكدت أن الدول الفقيرة لا تنعتق من فقرها بسياسات صندوق النقد الدولي، ولا بسياسات الديون التي ترهن قرار البلد للخارج، وكان درسها الأول أنها بدأت نهضتها الكبرى بالتركيز على "التعليم" وخصصت حكومته ما يزيد على 25 بالمائة من ميزانية الدولة للتعليم، لأنها أدركت أن التعليم كما هو وسيلة وأداة الترقي على المستوى الفردي فهو في نفس الوقت وسيلة وأداة الترقي على مستوى الأمم والدول. الفقر ليس عيباً، العيب يكمن في أن يصير "حجة البليد" وراء بقاء الحال على ما هو عليه. الفقر ليس قدراً، إذا ما واجهته مؤسسات الدولة وحكامها بخطط مدروسة وبرامج محكمة وتوجهات حازمة وسياسات منحازة، وسيظل الفقر قائماً إذا ما ظلت السياسة القديمة نفسها قائمة، وإذا ما ظل الانحياز إلى الأغنياء والمحتكرين والمليارديرات قائماً. البلد الفقير لا يصرف على صناعة "البروباجندا" كل هذه الأموال الطائلة، بل يصرف على صناعات حقيقة تخرج البلد من حالة الفقر إلى حالة "الاستغناء"، ومن مد اليد إلى كل أحد لنأخذ، إلى مد اليد لكل الناس لنعطي. وتجربة دي سيلفا في البرازيل مليئة بالدروس والعبر، وأهمها يتمثل في هذا النجاح الهائل في سياسة تقليل الواردات وتحقيق قفزة هائلة في الصادرات، وانتهاج سياسة إنمائية تقوم على تشجيع الزراعة وتسريع عملية التصنيع وزيادة الإنتاج وزيادة الإنفاق في القطاعات الاقتصادية والصناعات التي تدعمها الدولة بصفة أساسية. لم يقل دي سليفا لشعبه أنت شعب مديون وفقرا قوي بل حقق المعجزة، وتمكن من سداد جميع مستحقات صندوق النقد والتي كانت تقدر ب 15.5 مليار دولار، وسدد ديون الأنظمة السابقة قبل عامين من موعدها المحدد، وسددت جميعها من الاحتياطي النقدي البرازيلي. نقلت تجربة دي سيلفا البرازيل من الفقر الى الغنى، والاستغناء عن الخارج، وبعدما كسر قيود الصندوق الدولي حقق الاقتصاد البرازيلي قفزات هائلة جعلته ضمن الاقتصاديات الكبرى في العالم، بل إنه أقرض صندوق النقد نفسه ما يقرب من 10 مليارات دولار. ثمانية أعوام قضاها دي سيلفا في سدة الحكم، لا زادت يوماً ولا نقصت، أظهر خلالها المعدن النفيس المتوفر بكثرة في الشعوب الحية التي تجد طريقها إلى مكانها الذي يليق بها تحت الشمس، لم يحاول "الرئيس الفقير" الذي أغنى شعبه أن يجري أي تعديل في الدستور ليتولى فترة رئاسة ثالثة، رافضاً المطالب الشعبية الواسعة ليختتم حياته السياسية قائلا "ناضلت عشرين عاما ودخلت السجن لمنع الحكام المستبدين من البقاء في الحكم طويلا، فكيف أسمح لنفسي بذلك؟". والناس اللي جيوبها فقيرة ونفوسها غنية يعملوا كده..