«مستنقع يعج بالنباتات المائية الكثيفة، وينتشر به البعوض الذي ينقل العدوى لمن حوله».. كلمات كانت تلخص حال حديقة الأزبكية منذ عصر المماليك إلى منتصف القرن التاسع عشر، حتى أزيل المستنقع وتم ردم المنخفضات المنتشرة بها وطوقت الأشجار المكان، وأقيمت بوسطها الفسقيات، وانتشرت بها الأكشاك الموسيقية التي تحوي تخوت الطرب، وتناثرت بها مصابيح الغاز، وأنشئت بها الجبلاية على أجمل طراز. تكتسب «الأزبكية» أهميتها من كونها الحديقة الأقدم في مصر كافة؛ ففي عصر المماليك أهدى السلطان قايتباي قطعة أرض مساحتها 60 فدانًا لقائد جيوشه سيف الدين أزبك، فأقام الأخير فيها حديقة، صارت وقتها أشهر حدائق القاهرة، وظلت هكذا بدائية الإنشاء بما فيها من طرقات غير ممهدة وتنسيق جمالي محدود، إلى أن تولى الخديو إسماعيل حكم مصر، وكان رائدًا في التشييد والتعمير، فعمل على تجديد الحديقة بردم المستنقع الذي كان يتوسطها. وأقام إسماعيل على جانبي الحديقة في العام 1867 مسرحًا للكوميديا تشبهًا بالمسرح الفرنسي «كوميدي فرانسيز»، وافتتح المسرح في 4 يناير 1868، وبعدها بعام، أنشأ دار الأوبرا الخديوية على الجانب الآخر من الحديقة، وفي الوسط، أقام تمثال إبراهيم باشا، الذي صممه الفرنسي كورديه بتكلفة بلغت وقتها 18 ألفًا و320 جنيهًا، وزودت الحديقة بألفي و500 مصباح يعمل على الغاز، ليضيء الحديقة ليلًا، وكانت التوليفة الفخمة من عظمة الطراز المعماري للحديقة من إبداع المهندس الفرنسي باريل ديشان، الذي أقامها على 18 فدانًا. وعزز مسرح الأزبكية، الذي كان يطلق عليه «تياترو حديقة الأزبكية»، وتغير اسمه في عام 1958 ليكون «المسرح القومي»، من أهمية الحديقة؛ حيث قدمت أكبر الفرق المسرحية في بدايات القرن العشرين مثل فرقة «أولاد عكاشة» وفرقة «رمسيس» ليوسف وهبي، على خشبته، عروضًا غنائية ومسرحية، وشهد حفلات أشهر المطربين، أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة وشادية وصباح وفريد الأطرش ووديع الصافي، ليجد ذلك المسرح، الذي أقيم وسط الحديقة، حقبة مهمة من تاريخ مصر في الفن، وكان منارة حقيقية ونبراسًا ينير طريق الإبداع في أبهى صوره، وشهدت الحديقة في ركن خاص بها حفلات لكبار مطربي الرعيل الأول محمد عثمان وعبده الحامولي ويوسف المنيلاوي وصالح عبد الحي وغيرهم. ومع مرور الزمن، تم اقتطاع أجزاء من أطراف الحديقة، أقيم بها سور الأزبكية الذي أصبح أكبر سوق لبيع الكتب، وبجوار الحديقة أقيم فندق الكونتننتال، وأقيم به كشك للموسيقى، خصصت له فرقة من العازفين على الآلات النحاسية، وبهذه التوليفة الرائعة الساحرة، مزجت الحديقة بين الفن وعظمة تاريخ العمارة والتصميم، وجمع بين إبداع الفن وأصالة التاريخ في مشروع جميل ظل يمثل مصر الفن والإبداع. وفي السنوات الأخيرة، أضحت الحديقة ضربًا من العبث والعشوائية؛ حيث طالتها يد الإهمال، باقتلاع الكثير من أشجارها النادرة وتجريف هائل لأرضها لصالح إنشاء مترو الأنفاق، لتشهد الحديقة تقلصًا فادحًا، ولم يقتصر العبث بالحديقة وتدمير الأثر التاريخي النادر عند ذلك الحد، بل شهدت اعتداءات صارخة على قيمتها الجمالية، وتقسمت الحديقة إلى عدة أجزاء بعدما اخترقها شارع كبير سمي بشارع 26 يوليو، وجزء أنشئ به سنترال الأوبرا. وهكذا أدت الإدارة العشوائية وعدم الوعي بقيمة المكان التاريخي إلى وأد الحديقة؛ فتاكلت كلها اللهم إلَّا جزء صغير تبقى في المنطقة التي تجاور المسرح القومي، لتظل بقايا الحديقة أطلالًا خالدة تدل على ما كان بها من آثار نهضة شهدتها عصور سالفة رفعت فيها مصر راية الفن والتنوير.