لم يكن الأتابك «أزبك» أحد مماليك السلطان الأشرف « برسباى » يدرك أنه سوف يصبح أشهر من نار على علم بعد مئات السنوات من وفاته ، وأن أسمه سوف يقترن بأشهر حديقة ومنطقة فى مصر المحروسة وهي «الأزبكية» ، ولا أعتقد أيضآ أن الكثيرين من سكان القاهرة ومرتادي وسط البلد يعرفون حكاية هذه الحديقة وسر تسمية الحى بهذا الإسم ، وكثيراً ما يرتفع صوت سائقوا الحافلات وميكروباصات وسط البلد وهم ينادون بصوت جهورى «أزبكية ... عتبة» ولم يستوقف الإسم أحدهم أبداً ليتسائل عن حكاية هذه الحديقة «الأزبكية» وسر تسميتها ... والأزبكية حكايتها طويلة وترجع لمئات السنوات وهى موضوع حكاية هذا الأسبوع ، فقد عثرت أثناء تفتيشي فى أوراقى القديمة علي وثيقة نادرة وتحكى جزء من التطور العمرانى والتنسيق الحضارى والجمالى لمصر المحروسة فى منتصف القرن التاسع عشر ، وهى ليست ورقة واحدة بل عدة أوراق مكتوبة بخط اليد ترجع لعام 1869 ، وهذه الأوراق القديمة يبدو أنها كانت جزء من ملف مرفوع الى ولى النعم فى ذلك الوقت وهو الخديو إسماعيل تضم مقايسة مقدمة من كوردييه بك -وهو على ما يبدو مهندس أو مقاول فرنسى- لتكاليف إنشاء حديقة الأزبكية وتضم تفاصيل إنشاء الحديقة واللوازم التى تحتاج اليها والأشغال المراد تركيبها وبجانب كل عمل تكلفته بالفرنك الفرنسى ( وهى إحدى العملات المستخدمة فى مصر فى ذلك الوقت حيث عرفت مصر عملات دول كثيرة لوجود عدد كبير من الأجانب بها ) . والوثيقة مرفوعة فى سبتمبر 1869 وتم إحالتها الى ديوان المالية وتقول أن : « أشغال جنينة الأزبكية تضم بخلاف غرس الأشجار والدرابزينات إقامة فسقية كبيرة بقطر ثلاثين متر فى وسط الجنينة بإستخدام 95 متر كنارات من الجرانيت بتكلفة 198 الف و690 فرنك بالإضافة الى تكملة الأشغال خارج درابزين الجنينة وعمل فسقيتين من الخرسانة بنافورات ماء وإنشاء فسقية أمام لوكاندة( كولومبو ) بتكلفة 15 الف فرنك بالإضافة الى ترميم المماشى ( الممرات ) وعمل حنفيات وتركيب ثلاث ماكينات بخارية لزوم رش الأزبكية ، ويوضح كوردييه بك فى المقايسة أنه تم إستخدام 1500 متر درابزين حديد وعمل 20 الف من أقواس الحديد الصغيرة وإنشاء ثمانية بيوت ( قراقولات ) بإعتبار البيت الواحد 2500 فرنك وأربعة قناطر حديد وأربعة قناطر حجر نحت وخشب وقهوة وكشك لزوم ( الموزيقة ) أى الموسيقى بالإضافة لأستخدام ثلاثين نفر جناينية لزوم غرس الأشجار ، كما توضح الوثيقة أن إنشاء مغارة داخل الجنينة تكلف 6 الف فرنك بالإضافة لدفع 50 فرنك لتصليح سكك الأزبكية لمدة 6 أشهر ... ويشير كوردييه بك أن الذى صار إستلامه حتى التاريخ الموضح بالوثيقة بخصوص أشغال حديقة الأزبكية هو مبلغ واحد مليون وأربعمائة وخمسين الف فرنك بالتمام والكمال .. بقى أن أقول أن منطقة الأزبكية التى تقع بها الحديقة حكايتها تبدأ من من أواخر القرن الرابع عشر إبان حكم دولة المماليك، عندما أهدى السلطان قايتباي مكافأة لقائد جيوشه الأتابك سيف الدين بن أزبك قطعة أرض ناحية بركة بطن البقرة وأقام عليها منزلاً له و متنزهاً حول البركة يحمل اسمه « الأزبكية « ، وبحلول عام 1495 كانت الأزبكية قد تحولت إلى حي كبير يتوسط القاهرة ، وبعد دخول العثمانيين مصر شيد « رضوان كتخدا « في الأزبكية قصرا كبيرا على حافة البركة الشرقية وأسماه «العتبة الزرقاء» ، ومن ميدان الأزبكية خرجت جماهير القاهرة عام 1805م تنادي بمبايعة محمد علي أميرا على مصر ولكن الخديو إسماعيل يعتبر هو المؤسس الحديث للأزبكية حيث عاد عام 1867 من زيارته لباريس مبهوراً بعمرانها الحديث وشوارعها وحدائقها فقرر تحويل الأزبكية الى حى حديث على شاكلة الأحياء الباريسية يضم حديقة رائعة فأصدر أوامره بردم البركة التي كانت تتوسط الميدان، وأنشأ في نفس مكانها حديقة الأزبكية على يد المهندس الفرنسي «باريل ديشان بك»، على مساحة 18فدانا أحيطت بسور من البناء والحديد وفتحت بها أبواب من الجهات الأربع . ويقول عباس الطرابيلي في كتابِه « شوارع لها تاريخ» أن منطقة الأزبكية يرجع اسمها إلى «الأتابك أزبك»الذي بدأ في تعميرها وكانت منطقة خربة فحفر مجرى ليوصل الماء إليها وسكنَ بها بعد أن أزال تلال القمامة ومهد الأرض وجدّد حفر البركة وتعمير القنطرة وبنى رصيفًا حول البركة ، فتشجع الأهالي وانطلقوا يبنون حولها بيوتهم لتتحول الأزبكية إلى حي كبير، وأنشأ بها مسجدًا كبيرًا، وانتشرت حولهُ الحمامات والطواحين ، وعندّما دخل العثمانيون مصر أقاموا خيامهم حولّ البركة ، ثُم بنى رضوان كتخدا قصرًا كبيرًا على حافتها الشرقية ، وفي عهد الخديو إسماعيل، تم تكليف المهندس الفرنسي الشهير، هوسمان، بإعادة تخطيط منطقة الأزبكية وأصبحت هذه الدار في وسط الميدان، وأطلق على جزء منه اسم «العتبة الخضراء»، وعلى الجزء الآخر «ميدان أزبك»، ثم أصبح هذا القصر مقرًا للمحكمة المختلطة وعندّما تقررَ توسيع الميدان تم هدمه. ويُذكَر أنّ على بك الكبير قد أنشأ دارًا كبيرة على الحافة الجنوبية من بركة الأزبكية وعندما مات آلت هذه الدار إلى محظيتُه وزوجته الست نفسية التى عُرفت بالمرادية، لأنها تزوجت بعد ذلك من مراد بك، شيخ البلد الذي كان يقتسم حكم مصر مع عدوه اللدود إبراهيم بك.ثم قام ابراهيم باشا بن محمد على بردم جزء من البركة بعد أنّ تحولت إلى بؤرة غير نظيفة، وبنى محمد على فيها قصرًا كبيرًا لإبنتهُ زينب، ومن بعدهم جاء الخديو إسماعيل الذى قال للمهندس الفرنسي : «أريدُ الأزبكية قطعةٌ من باريس، تجمع بين جمال حدائق الغابة السوداء (غابة بولونيا) في باريس وبين منطقة أوبرا باريس، والأحياء التُجارية حولها». ويقول الياس الأيوبي فى كتابه تاريخ مصر فى عهد الخديو اسماعيل أن المكان تحول فى عهده الى « نزهة من أجمل المنتزهات ومكان بديع يخلب الالباب تنيره الأنوار الغازية وتزينه الفسقيات الناثرة الماء فى الأعالى لؤلؤا ساطعا والمغائر الصناعية المنحدر منها الماء بخرير تلذ به الأسماع الي بحيرة صافية تجري الأسماك فيها ملونة ، ثم اقبل الخديو على الحى فجعل ينتزع ملكية منازلة الخشبية القديمة مقابل تعويضات ويزيل المساكن العتمة ويهب الارض الى من تعهد بإقامة مبان فخمة عليها تتفق مع عظمة القاهرة الجديدة فكان أكبر هؤلاء المتعهدين شأنا ومالا وإقداما « اللورد أوف سويذرلاند « الذي أقام فى حى الأزبكية القصور والفنادق حتى بلغ مبلغا عظيما من العظمة والرونق والجمال « وبعد عشرات السنوات ذهب الجمال وإنطفأ الرونق بفعل الزمن والإهمال والجشع والجهل والتعديات والعشوائية وتحولت الأزبكية وحديقتها العامرة الى خرابة ومرتع للباعة الجائلين والمتسولين وهكذا أظلم أحد الجوانب التى كانت مضيئة فى مصر المحروسة ،،،،، والله .. الله على مصر زمان