الحكايات عن عصر الخديو المدهش إسماعيل « أبو السباع « لا تنتهى ومنها حكاية هذا الأسبوع وهى عن إنشاء وتقسيم شارعين من أهم شوارع المحروسة هما شارع قصر النيل وشارع باب اللوق وما يحيط بقصر عابدين ومنطقة الإسماعيلية أو ميدان التحرير كما يُطلق عليه الآن .. فالخديو إسماعيل « سابق زمانه وأوانه « وهذه حقيقة لا تقبل التشكيك فى إطار سعيه لتطوير عاصمة بلاده وتحديثها لتواكب المدن العصرية قرر فتح وإنشاء شوارع جديدة لتربط المدينة بقصر عابدين الذى أصبح مقر الحكم وفيه جلس إسماعيل على الأريكة الخديوية ، فقام بوضع البنية التحتية للمنطقة والشوارع من رصف وإنارة وتخطيط وتبقى البناء فما كان منه الإ أن إبتكر خطة ذكية شيطانية ماكرة لضمان تطوير الشوارع وعمارتها بأقل التكاليف ، فقد قرر منح الأراضى المحيطة بالشوارع الجديدة لرعاياه مجاناً على أن يقوموا ببناء مبان راقية وحديثة على جانبيها بمواصفات محددة وفى مدة محدودة ، وبالطبع تسابق الكبراء والعظماء والوجهاء وكبار رجال الدولة والمعية الخديوية للحصول على هذه المنحة الكريمة من أفندينا الذى كان يشاهد نتاج أفكاره وهو يضحك فى سره ، فقد تمكن من تنفيذ خطته للتحديث بشروطه وضمن أن تتحول هذه المنطقة الى حى على أحدث وأرقى طراز فى إطار طمع المحيطين به فى الحصول على مساحات كبيرة من الأراضى بالمجان وسعيهم لإرضائه بشتى السبل ببناء منازل وقصور تجاور قصره ، وبالطبع كان للمحيطين به ورجال قصره النصيب الأكبر من هذه الأراضى التى لم يعلم بها من العامة -الاقليل - بإعتبارهم من يتلقون أوامره ومراسيمه ويعلمون بها فور صدورها ، وهذا ما تؤكده الوثائق التى يتضمنها الملف المؤرخ بعام 1866 والذى أعرضه اليوم ومنها الطلب الذى تقدم به حسن موسى رئيس قلم إدارة بالمالية الى محافظ مصر يقول فيه « حيث صدرت الرخصة من لدن المراحم الخديوية بإعطاء أراضى من شارع باب اللوق لمن يرغب من باب الإحسان على رعاياه ، وعبدكم من رعايا ولى النعم فنرجو من سعادتكم صدور الأمر لمن يلزم بتحديد قطعة أرض الف متر لأجل بناء محل سكنى من ضمن الأحسانات لإقامتى وعائلتى فى ظل الساحة الخديوية وندعو بالسعادة والنعم لولى النعم « كما تقدم أربعة موظفين من الدائرة السنية بطلب لتخصيص 13 الفا و600 متر من الأراضى المزمع تقسيمها شرقى قصر النيل كما تقدم السيد خليل خوخة بطلب لأخذ قطعة فى تنظيم شارع باب اللوق بجهة محل المدابغ القديمة ،كما تقدم يوسف شهدى بك ياور الخديو بطلب لمحافظ مصر للحصول على الف وخمسمائة متر من الطريق الذى صار فتحه على جهة عابدين من طرف باب اللوق وقد أرسل وكيل ديوان المالية طلباً يقول فيه « سبق تأشر منا على الخرطة ( الخارطة ) المتضمنة أراضى باب اللوق عن مربع مقداره 3 الاف متر ونرجو منكم تحديد ذلك بإسمنا « أما الطف الطلبات فكانت من حسن وفائى معاون عموم أوقاف الذى قال « بما أن موجود بعض أراضى مزمع تقسيمها من أراضى المزارع التى دخلت تنظيم شارع باب اللوق ومرحمة أفندينا إقتضت الإحسان بها على عبيده لبناء منازل لإجل حصول العمارة وحيث نحن من ضمن عبيد ولى النعم وقصدنا الإحسان علينا بإعطائنا قطعة أرض تبلغ الف و200 متر لأجل بناء منزل لإقامتنا نحن وعيالنا فإلتزمنا بالإعراض لسعادتكم والرأى لما ترونه . وعن تعمير شارع قصر النيل وباب اللوق يقول حمدى أبو جليل فى كتابه « القاهرة شوارع وحكايات «أنه ما أن تولى الخديو إسماعيل حكم مصر عام 1863 حتى أمر بالتوسع في تعمير المنطقة الممتدة من شاطئ النيل عند ثكنات الجيش إلى باب اللوق، وكلف كبير مهندسي مصر فى ذلك الحين « على باشا مبارك « بتحويل تلك المنطقة إلى واجهة حضارية للعاصمة فاختار 617 فداناً للحى الجديد وكان بعضها مازال أراضى خربة تحتوى على كثبان من الأتربة وبرك للمياه وأرض سباخ، فخططها وأنشأ فيها الشوارع والحارات على خطوط مستقيمة أغلبها متقاطع على زوايا قائمة ودُكت شوارعها وحاراتها بالحجر الدقشوم ، ونظمت على جوانبها الأرصفة ، ومدت في أرضها أنابيب المياه وأقيمت فيها أعمدة المصابيح لإنارتها بغاز الاستصباح، حتى أن على باشا مبارك وصفها فى مذكراته أو خططه التوفيقية قائلاً أنها أصبحت من أبهج أخطاط ( أحياء ) القاهرة وأعمرها وسكنها الأمراء والأعيان . وبعد الأنتهاء من رصف الشوارع والأرصفة قام الخديو إسماعيل بمنح الأرض للذين سوف يشيدون المبانى بشرط ألا تقل تكلفة العمارة عن 2000 جنيه وقد حدد هذا المبلغ الضخم بهدف بناء عمارات كبيرة عصرية يتوافر فيها الذوق الرفيع والصلابة لتماثل التى رأها فى باريس التى يعشقها . وفى عام 1874 بلغت المساحة التي شُغلت بالمبانى 752 فداناً احتلت شبكة الطرق منها 30% وشغلت المبانى 31 % واحتلت الباقى حدائق شاسعة تمثل الاحتياطى للتوسع العمرانى ومنها شارع قصر النيل الذى بلغ طوله 1160 متراً ، و كجزء من خطة التعمير هذه كلف الخديو إسماعيل شركة فيف ليل الفرنسية بإنشاء كوبري معدني لتسهيل الوصول إلى الجزيرة الواقعة الضفة اليسرى للنيل فتم إنشاء كوبري قصر النيل عام 1872 وتكلف 108 آلاف جنيه .. ولكن يجب الإشارة الى أن محمد على باشا هو أول من عمر منطقة قصر النيل وكان وراء إطلاق هذا الأسم عليها عندما استحضر المهندسين الأجانب لإدخال المبانى الحديثة في الديار المصرية فبنوا لابنته نازلى هانم ( المقربة الى قلبه ) سرايا على النيل أُطلق عليها ( قصر النيل ) هى التي هدمها سعيد باشا ليبنى محلها قشلاق قصر النيل لإقامة العساكر به ، كما قال على مبارك في خططه التوفيقية . أما باب اللوق فهو يعتبر من أهم الميادين فى قلب القاهرة لأنه المعبر الآمن للوصول الى قصر عابدين وأن هذه المنطقة كانت أرضاً زراعية يغمرها الفيضان فى الماضى وكانت هذه المنطقة مشهورة بالبساتين إبان عصر المماليك ثم تحولت الى برك ومستنقعات كريهة الرائحة حتى أنشأ الخديو إسماعيل نظارة الأشغال العمومية بجوار ميدان باب اللوق عام 1864 ونقل المدابغ بعيداً وتم تخطيط المنطقة كلها بشوارع مستقيمة ومتقاطعة وعصرية . ويقول الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل فى كتابه « القاهرة من ولاية محمد على الى إسماعيل « أن الخديو إسماعيل نظم منطقة غرب القاهرة الممتدة من بركة الأزبكية الى شاطئ النيل فى بداية حكمه وسماها « الإسماعيلية « – التحرير- لتكون شوارع المدينة صالحة لمجابهة التوسع التجارى والإقتصادى وكثرة عربات الركوب وعربات نقل البضائع وفى إطار تحقيق ذلك إشترى عدة مبان والكثير من الأملاك لزوم التوسعة ثم أصدر أوامره بإنشاء الشوارع وتوزيع الأراضى حولها لزوم بناء المبانى الحديثة وقد ظل إسماعيل ينعم على أفراد عائلته وعلى رجال الدولة بالأراضى التى بقيت بعد إعادة تخطيط منطقة الإسماعيلية حتى نهاية حكمه . وترجع تسميه باب اللوق بهذا الإسم الى وجود باب كبير عليه طوارق حربية مدهونة على غرار العادة المتعارف عليها فى أبواب القاهرة وأبواب القلعة وبيوت الأمراء وقد أعاد إسماعيل تخطيط هذه المنطقة وأقام بها عدة شوارع مستجدة مثل العوائد والمشهدى والكنيسة الجديدة ومنصور وأبى السباع وغيرهم ، وفى إطار تجميل القاهرة كان الخديو إسماعيل يريد أن يتخذ من سراى عابدين مركزاً يتفرع منه عدة شوارع وصلت الى منطقة الإسماعيلية فبدأ فى نزع ملكية الأراضى الموجودة فى زمام مشروعه الكبير وتعويض أصحابها ومنها الشارع الذى سيمتد من عابدين الى ميدان باب اللوق وأصدر أمراً الى ناظر المالية قال فيه « أنه قد صدر أمرنا شفاهاً بمشترى الأماكن والدكاكين اللازمين للشارع المستجد من عابدين لحد ميدان باب اللوق وصرف ثمنهم البالغ ربعماية أربعة وتسعين كيسة ». الله عليك يا أبو السباع ( اللقب الذى أطلق على إسماعيل بعد وضع السباع على كوبرى قصر النيل ) وعلى أفكارك التنويرية العبقرية التى قدمت للقاهرة أجمل وأشيك شوارعها وأحيائها ... فهل يقتدى المسئولون فى عصرنا بالخديو إسماعيل فيقومون بتمليك الأراضى للشباب بشرط زراعتها أو إقامة مشاريع عليها خلال فترة محددة والا يتم سحبها .. [email protected]