النوبيون دعاة انفصال!، النوبيون دعاة تدويل!، هذا هو المفهوم الأمني للتعامل مع النوبيين المصريين، وهي دائما مطرقة للدق علي أعناق النوبيين كلما طالبوا بحقوقهم، ومنذ أكثر من ستين عاما وهذه هي التهمة الموجهة إلى النوبيين كلما فكروا في المطالبة بحقوقهم، ومما يؤسف له أن الرأي العام دائما ما يلتقط هذا الطعم الأمني وتبدأ حملات مضادة ضد النوبيين تتهمهم بالخيانة والعمالة وتفتيت الوطن، والأكثر مدعاة للأسف أن الإعلام المصري يتلقي الاتهامات من أجهزة أمنية ودون أن يفكر في فحصها فإنه يكررها كالببغاء. وهنا تكمن المشكلة أن الرأي العام والإعلام المصري ليس لديه دراية بجزء من الشعب المصري وهم نوبيو مصر، ولا يعرفون ما هي الحقوق التي ينادي بها النوبيون منذ أكثر من قرن، ومن أجل معرفة الحقوق النوبية سنعطي مثالا لجزء من الشعب المصري كانت له نفس الحقوق ونفس المطالبات وحصل عليها دون اتهامه بالتخوين والعمالة، وهذا المثل أهل مدن القناة والذين تم تهجيرهم من مدنهم وقراهم بسبب الحرب التي دارت بين مصر وإسرائيل، وعندما انتهت الحرب طالب أهل القناة بالعودة إلي مدنهم وقراهم، وحققت لهم الدولة مطالبهم كاملة وعوضتهم عن فترة التهجير، ولم يزعم أحد أن أهل القناة دعاة انفصال أو تفتيت للمناداة بحقوقهم ولم تبخل الدولة عن تعويضهم زمن الهجرة وملكت لهم الأراضي والبيوت التي هجروا إليها كما أعادت تشييد المناطق التي هجروا منها. وهنا يبقى السؤال: ما الفرق بين أهل مدن القناة وأهل النوبة؟، لن تجد فرقا بين المشكلتين، أهل النوبة منذ منتصف القرن التاسع عشر وهم يعانون من فيضان النيل الذي كان يدمر مزارعهم وبيوتهم ولم يفكر أحد في مساعدتهم أثناء فترة الفيضان من كل عام ولمدة خمسين سنة، وفي هذه الفترات كان النوبيون ينقلون بيوتهم علي حسابهم الخاص ويعيدون استصلاح أراضي جديدة، ولم يفكر النوبيون طوال هذا الزمن في الانفصال أو تفتيت الوطن. ومنذ القرن العشرين بدأت الدولة في حل مشاكل الزراعة والري والكهرباء علي حساب النوبيين ببناء خزان أسوان عام 1902 والسد العالي 1971. لم يقاسي الشعب المصري كما قاسي جزء منه وهم أهل النوبة، وما بين زمن تشييد الخزان والسد عاني النوبيون من مشكلتين أساسيتين: الأولي عدم تعويضهم تعويضا عادلا عن نقل البيوت والمساكن أعلي منسوب المياه الذي كان يرتفع، وثمنت ممتلكاتهم بالملاليم والقروش وحتي التثمين الهزيل كان يخصم منه الثلث على أنها مصاريف إدارية، والمشكلة الثانية هي تعداد النوبيين لم يكن صحيحا وفيه من الإهانة بتسمية النوبي الذي هاجر من أجل رزقه بأن يسمي مغتربا ولك أن تتخيل بأن تسمي داخل وطنك بالمغترب. وتجرع النوبيون آلامهم بسبب وطنيتهم وقبولهم الهجرة لمشروع قومي يفيد مصر كلها وهو مشروع بناء السد العالي، وصدقوا وعود الحكومة بأن الأراضي التي سيهجروا إليها لن تختلف عن موطنهم القديم، ونقلوا بطريقة مهينة سجلها التاريخ ولن يغفر لمن قاموا بإدارة هذا التهجير المهين، ووجدوا أنفسهم مهجرين إلى أراضي صحراوية لم يكتمل بناء بيوتها، وعاشوا لأكثر من سنة في خيام كاللاجئين حتي تكتمل بيوتهم. وعاني النوبيون في موطن التهجير الجديد في كانتونات محاطة بتقاليد وعادات تختلف عنهم، وتحولت مشكلة التهجير إلي أزمة نفسية بعد أن رأي النوبيون أنقسهم وهم يفقدون العادات تلو الأخرى والتقاليد واللغة والموسيقي والفلكلور الخاص بهم، ولم يجدوا من الحكومات المتعاقبة أية مساعدة ووضعوا لأنفسهم حلولا أهلية يستطيعون بها أن يحافظوا علي تراثهم، والمشكلة الأعمق أن الأقارب في التهجير أبعدتهم الحكومة إلى قرى في محافظات عدة كأسوان وقنا. ومنذ عام 1964 ومشاكل النوبيين تزداد في مناطق المهجر، فغالبية القرى النوبية لم يعد بها امتداد أفقي لكي يبني النوبيون مساكنهم، وأعدادهم تتزايد بشكل كبير والبطالة ترتفع لعدم وجود فرص عمل للشباب، ووصلت نسبة البطالة بينهم إلى 80 %، وكل الحكومات المتعاقبة لم تفكر في حل مشاكل النوبيين الجديدة، وتصدى الأمن لملف النوبة حين يتم الحديث عن عودة النوبيين إلى بلادهم القديمة. ومنذ أوائل الثمانينات حدثت الصدمة الكبرى للنوبيين، وهي أن بلادهم القديمة أصبحت حلا لمشاكل الخريجين بمحافظات عدة في مصر مثل: كفر الشيخ والفيوم وأسيوط وسوهاج! منذ 36 سنة وهم يتفاوضون مع الدولة تارة ومع الأمن تارة لإعادتهم إلى بلادهم القديمة، والحكومة تتعامل معهم بعدم اكتراث، وبدأ الإحباط يتسرب إلى الشباب النوبي وعلا غضبهم من قياداتهم الصبورة مع حكومة لا تفكر في إعادتهم ولا حل مشاكلهم القديمة والحديثة. ومنذ ثورة 25 يناير بدأ شباب النوبة في التعبير عن غضبهم من الحكومة في شكل اعتصامات، وظلت الحكومة تسوف وتتعامل أمنيا معهم، وغضت الطرف عن جهاد الشباب النوبي في وضع مادة بالدستور، وهي المادة رقم 236 التي تلزم الدولة في إعادة النوبيين إلى موطنهم القديم خلال فترة عشرة سنوات من إقرار الدستور، وبعد ومضة الأمل هذه فوجئ الشباب النوبي بعرض أرض الموطن القديم للبيع في المزادات المتتالية وتبخر أملهم تماما في القرار الجمهوري رقم 444، والذي يعين الحدود المصرية، وأكل ثلثي الأراضي المفترض أن النوبيين سيعودون إليها، ومن هنا جاء غضب الشباب النوبي الذي تفجر يوم 19 نوفمبر 2016، وهذه هي قضية النوبة لمن يريد أن يفهمها أو يتعامل معها. مدير عام آثار أسوان