تعتبر قوة الدولة أحد أهم الدعائم والركائز التي تنبني عليها العلاقات الدولية، لأنها هي المحرك الأساسي للدور الذي تقوم به الدولة في السياسة الخارجية وفي إطار علاقاتها مع غيرها بالدول الأخرى من حيث الفاعلية والتأثير، فكلما ازدادت قوة الدولة ازدادت عادةً تبعاً لذلك فاعليتها وقوة تأثيرها على الساحة الدولية، وتمكنت من تحقيق أهداف سياستها الخارجية. وتأكيداً لذلك تظل القوة هي محور ارتكاز العلاقات الدولية، بغض النظر عن التحكم في زمامها وتطويعها بما يُمكّن الدولة من الدفاع عن أمنها القومي ومصالحها وأهدافها المشروعة، دون تعدٍ أو انتهاك لحقوق ومصالح الغير المشروعة، بما يعني الخروج على الشرعية الدولية. أو تسخيرها كأداة لفرض الإملاءات والشروط الجائرة وتغيير الأوضاع القائمة بغرض تحقيق أهداف ومصالح غير مشروعة على حساب دولة أو أكثر. وقد تحدثت في مقال سابق تحت عنوان: (مفهوم القوة في السياسية الدولية) عن أن مفهوم قوة الدولة يتصف بالتعقيد والتشعب والتشابك، ولا يعني فقط القوة العسكرية للدولة، بل إن هذا المفهوم يعني مجموع عناصر المقدرات القومية التي تمتلكها كل دولة منفردة، ومن بينها القوة الاقتصادية، التي سبق وأن أشرت إليها. واستكمالاً لذلك، فقد برز في الآونة الأخيرة بصورة أكثر وضوحاً مدى أهمية القوة الاقتصادية للدولة، بسبب ازدياد أهمية القضايا الاقتصادية في العلاقات الدولية، ولتزايد ظاهرة الاعتماد الاقتصادي المتبادل، ولأن استخدام القدرات الاقتصادية في تحقيق ما لا حصر له من الأهداف والمصالح بات لا ينطوي على القدر ذاته من المخاطر والآثار السلبية التي ينطوي عليها اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية في تحقيق تلك الغايات. وهذا الأمر سبق وأن فطن إليه أرباب الفكر الاقتصادي في القرن السابع عشر، ممن رأوا أن من يحكم المحيط يحكم تجارة العالم، ومن يحكم تجارة العالم، يحكم ثروة العالم، ومن يحكم ثروة العالم، يحكم العالم كله. وينصرف مفهوم القوة الاقتصادية للدولة إلى الإمكانات والموارد المادية والطبيعية والصناعية والتكنولوجيا المتاحة في ميدان إنتاج السلع والبضائع وتقديم الخدمات وتطويرها. بحيث تسهم الموارد الاقتصادية التي تتمتع بها الدولة في تحديد موقعها في الإطار العام للبنيان الدولي وفي نمط تفاعلها الاستراتيجي مع الوحدات الأخرى في النسق الدولي. وتتحقق القوة الاقتصادية للدولة من خلال امتلاكها للموارد المادية والطبيعية، كمصادر الطاقة، مثل البترول والفحم والغاز، أو كالثروات المعدنية، مثل الذهب والحديد والقصدير والنحاس، أو كالأرض وما تشتمل عليه من مقومات كالتربة الخصبة التي تتيح إنتاج الموارد الغذائية، التي تساهم في تحقيق الأمن الغذائي، كمحصول القمح أو غيره، وكذلك ما تشتمل عليه من مصادر مياه. بحيث تحقق هذه الموارد وغيرها الاكتفاء الذاتي، ثم تنتقل إلى مرحلة التنافس الدولي، الذي يسمح للدولة بأن تفرض نفسها وتفوقها على غيرها من الدول. ومما شك فيه أن هناك تفاوتاً ملحوظاً بين الدول في امتلاك مثل هذه الثروات والموارد، ولهذا تسعى كثير من الدول التي تخطو نحو التقدم، وتعاني من نقص في امتلاك بعض هذه الموارد، إلى الاستعاضة عنها بتطوير استراتيجيتها ومواطن قوتها الفنية والتنظيمية والتقنية وغيرها، لإحداث تغيير في منظومتها الاقتصادية وسياستها الخارجية، حتى تستطيع أن تستخدم الموارد المحدودة المتاحة لديها بمهنية واحترافية تبلغها غايتها، كما هو الحال في اليابان. ولكن ينبغي أن نعلم أن امتلاك الموارد المذكورة وغيرها غير كافٍ لبناء القوة الاقتصادية للدولة، فإن لم يتم استثمارها واستغلالها على النحو الأمثل من الناحيتين التكنولوجية والتصنيعية ستصبح هي والعدم سواء، وستظل إمكانات مهدورة ومعطلة بدون أي فاعلية أو تأثير، كما هو الحال في الدول المتخلفة. فهذه الإمكانات والموارد هي في حقيقة الأمر تمثل الأساس والدعامة التي ينبني عليها النمو الاقتصادي والصناعي والتبادل التجاري والتطور الفني والتكنولوجي للدولة. وبالتالي فإن الاستغلال الأمثل لهذه الموارد واستثمارها وإجادة توظيفها وتطويرها بصفة مستمرة عن طريق اتباع الآليات والاستراتيجيات الحديثة المتطورة التي من شأنها دعم الكفاية الاقتصادية والقدرة الإنتاجية، وتحقيق أقصى عائد من الإنتاج، هو الذي من شأنه دعم القوة الاقتصادية للدولة. فالتقدم التكنولوجي على سبيل المثال يؤدي دوراً كبيراً في دعم القدرات الإنتاجية للدولة، لأنه يقوم بتهيئة الأجواء المناخية ويفتح الأبواب على مصراعيها أمام استغلال الإمكانات المادية والطبيعية والبشرية على النحو الذي يحقق تلك الغاية، ويمنح الدولة أقصى استفادة من تلك الموارد، ويمنحها أدوات جديدة لتنفيذ سياستها الخارجية. ونستقي من ذلك أن امتلاك الدولة للقدرات الاقتصادية هو أهم العوامل الرئيسية التي تمكّن الدولة من التأثير في سياسات الدول الأخرى، ويجعلها تلجأ بموجب هذه القوة إلى استعمال الكثير من أوراق وأساليب الضغط السياسي والدبلوماسي وفرض الإملاءات والمواقف السياسية على الآخرين من أجل حماية مركزها الاقتصادي المتفوق وتحقيق أهدافها ومصالحها. وقد تلجأ في سبيل ذلك إلى استخدام سياسة الدعم وتقديم القروض والمنح والهبات الاقتصادية لاستمالة الدول التي لا تتمتع بمثل تلك القوة الاقتصادية وجعلها تابعة ومنقادة لها، بحيث تفرض عليها سياسات معينة وتلزمها بتبني مواقف سياسية محددة، تضمن تحقيق رغباتها وغاياتها وأهدافها. وعلى النقيض من ذلك فإن التدهور الاقتصادي الذي يحل بأي دولة يترتب على إثره انكماش حاد في سياستها الخارجية وجعلها غير مؤثرة في الجماعة الدولية. ولذلك فليس من المستغرب أن تعتلى الولاياتالمتحدةالأمريكية صدارة الاقتصاد العالمي، وتنفرد بالمركز الأول اقتصادياً، على النحو الذي مكّنها من فرضها هيمنتها وبسط نفوذها على العالم. وهذا الأمر نفسه يفسر لنا السبب الرئيس من قلق الولاياتالمتحدة من تطور القدرات الاقتصادية للصين التي جعلتها تحتل المركز الثاني في ترتيب الاقتصاد العالمي بعد الولاياتالمتحدة، على النحو الذي فرض الكثير من التحديات والمنافسة الشرسة بين الطرفين في هذا الجانب.