*إن عنف الدولة لا يكون مشروعا إلا عندما تكون هذه الدولة قائمة على أساس مشروع أي على التمثيلية، الانتخابات، الحريات العامة، التعددية السياسية، و تداول السلط، و فصل السلطة. لكن يفترض هنا أن العنف هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على العنف أي مواجهة القوة بالقوة. و ضد هذه الفكرة يطرح غاندي ((المفكر)) و الزعيم الهندي الشهير أن العنف رذيلة، و إذا كان العنف قانونا حيوانيا، فإن اللاعنف هو القانون الذي يحكم البشر. و يعرف هذا الأخير على نحو ما يلي:((الغياب التام للإرادة السيئة تجاه كل ما يحيى)) إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا، الصداقة ستكون حلا لمشكلة العنف، إذا أصبحت عامة بين الأفراد و الأمم. و ذلك ليس فيه تخلّ عن الصراع الإنساني، بل على العكس من ذلك فاللاعنف مناهض للشر لكن بوسائل الخير. إن القوة الحقيقية بهذا المعنى هي قوة الروح التي تستطيع أن تنجح في جعل اللاعنف ينتصر على العنف و السلام على الحرب و القوة الروحية على القوة الفزيائية. لقد ساد في الآونة الأخيرة نوع من الإرهاب الفكري الديني الذي يفسر بشكل واسع بأسباب جيوبوليتيكية، ولكن هناك من يعتقد بأن العنف الديني يأخذ طابعا رمزيا أكثر منه عسكريا ولو فتّشنا عن السبب في جنوح هذه الحركات إلى العنف واعتماده نهجاً وطريقاً في مواجهة الآخر ممّن لا يتّفق معهم في الرأي مسلماً كان أو كتابياً أو مشركاً، لما وجدنا مبرّراً لذلك سوى سوء فهمهم للدين وجهلهم بأهدافه ومقاصده وتطلّعاته، وتمسكهم بنصوصه بشكل مجتزئ وانتقائي وعدم إحاطتهم به من جميع جوانبه، وساهم في ذلك عوامل أخرى منها: هوى النفس وحبّ الدنيا والأطماع والعُقَد الخاصة، وعزّز ذلك أساليب القمع والوحشية التي لجأت إليها بعض السلطات الجائرة في مواجهتهم ومحاولة لاستئصالهم، وهو ما زادهم شراسة وعنفاً وقسوة، وفي هذا الجوّ نشأت وترعرعت الأفكار التكفيرية وتشكّل ما بات يُعرف 'بثقافة العنف'، لأنّ المشكلة لا تكمن في مجرّد ممارسات عنيفة وقاسية هنا وهناك، بل في ثقافة مشوّهة وتعبئة خاطئة تنتج التطرّف والعنف وتجتذب الإرهاب وتصنع أفراداً وجماعات أشداءً غلاظاً قساة على المؤمنين والكافرين على السواء. وعلى ضوء ذلك غدا علاج المشكلة معقّداً وبمكان من الصعوبة، فهو لا يتمّ بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تنبيه هنا وتوجيه هناك، لأنّ هؤلاء لا يرون أنفسهم فاعلين لمنكرٍ أو تاركين لمعروف، بل يعتقدون أنّهم يقومون بواجبهم الديني والرسالي، وإنّما العلاج باعتماد عملية توعية وتثقيف شاملة تعمل على غرس ثقافة الرفق في النفوس وتعميمها في كلّ الأوساط وتربية الجيل الصاعد عليها، إنّ علينا أن نعمل على مواجهة العنف من خلال تفكيك وتفنيد البنى التحتية التي يرتكز عليها، وأعني بذلك ثقافة العنف ومبرّراته الدينية الموهومة وروافده الفكرية المزعومة.. ومن الواضح هنا بأن الإرهاب يعمل على نشر الخوف وبث الرعب وبناء أجواء هستيرية مخيفة في وسط الناس والعامة، وهذا الخوف الذي تثيره الجماعات الإرهابية يقوم على أساس من التهديد الرمزي بالدرجة الأولى، وفي هذا الخصوص يعلن كثير من الباحثين والمفكرين أن الجماعات الإرهابية الدينية لا تملك إمكانيات كافية من أجل مواصلة حروب واسعة أو شاملة بالمعنى العسكري، ولذلك فإنها تلجأ إلى حروبها الرمزية فتعمل على تدمير الرموز المعادية وتقوم بتصفيتها، حيث يتم استهداف المساجد والمباني والكنائس والمراكز الرمزية من أي نوع كانت. ومن الواضح أيضا أن العنف الرمزي الديني يباشر تأثيره الكبير في عملية الضبط الاجتماعي للأفراد والجماعات وأنه لا يمكن التقليل من أهميته أو الاستهانة به ولاسيما عندما يكون هذا العنف دينيا.** **ومن المهم في هذا الصدد الإشارة إلى أعمال عالم الاجتماع الأمريكي سكوت **Scott**. الذي يقدم رؤية أكثر وضوحا للعنف الأصولي والديني. ووفقا لسكوت فإن المقدس يكون محايدا ولكن تفسير المقدس ليس كذلك في جوهر الأمر. إن تجاوب الفرد إزاء المقدس لا يمكن أن يكون إلا على نحو تناقضي. فالمجتمعات الدينية غالبا ما تلجأ إلى الدين لتفسير وقائع الحياة والتجارب الإنسانية التي تعيشها، وهي في سياق تجاربها تعتمد ثنائية السلام والعنف وتجسدهما في آن واحد والكاتب في هذا الاتجاه يفند رؤية جيرجنسميير الذي يفسر العنف الديني بعوامل جغرافية سياسية (جيوبوليتيكية). فقدرة الدين على تحقيق النشوة الدينية، وإخراج المؤمن من ضغط الحياة اليومية وإكراهاتها يشكل منطلق كل عنف ديني. ففي مختلف الأديان يقود التدين الزهدي إلى نشوة التضحية بالنفس أو بالآخر وهذه سمة كارزمية مشتركة بين جميع الأديان تقريبا، ويمكن القول في هذا السياق بأن تجربة المقدس الدينية تجد نفسها في دائرة التناقض بين أمرين: بين التطرف من جهة والسلام من جهة أخرى. فالتطرف يقوم على استخدام العنف وهدفه تدمير العدو المفترض، وبالمقابل فإن السلام الديني يقوم على توظيف العنف في حلة رمزية وروحية: تقديم القربان.** **وعندما يقوم الدين بإضفاء طابع القدسية على عملية النضال من أجل الاستقلال السياسي -أي عندما يريد أن يحقق استقلالا سياسيا على أساس المعتقد الديني - فإن الحركات العرقية والقومية تجد مبررها لتمارس العنف بدورها ضد الجماعات العرقية والقومية الأخرى. وهنا أيضا يمكن الكشف عن الطبيعة الثنائية للمقدس في طريقة الاستجابة الإنسانية، فالهوية الدينية يمكنها أن تقوم بممارسة وتوسيع دائرة الكراهية والأحقاد العرقية والقبلية في بعض المناطق، أو يمكنها أن تتحول إلى أداة لتجاوز هذه الوضعية إلى وضعية التكامل والتضامن.** **فالمتطرفون يقومون بتوظيف الدين من أجل تبرير العنف وتقديسه، ومن أجل توليد التمييز بين الجماعات العرقية كما بين الإثنيات الثقافية واللغوية المختلفة. ولكن كيف يمكن تفسير لجوء بعض الأفراد الذين يتسمون بالطابع الأخلاقي إلى العنف؟ في سياق الإجابة عن هذا التساؤل يرى أبليبي **Appleby** بأن الأمية الدينية تشكل عاملا حيويا وبنيويا في عملية تنامي وتصاعد العنف الاجتماعي، ولاسيما في وضعيات الضغط والتأزم، وما يميز هذه الأمية أنها نتاج مستمر لانخفاض كبير في مستوى التفكير الذاتي الأخلاقي وانخفاض مستوى الثقافة الدينية نفسها. وهذا هو الأمر الذي دفع الحكومات الأوروبية إلى التدخل في عملية إعداد وتأهيل رجال الدين. وفي هذا السياق يبين أبليبي الدور الكبير للدين في تشكيل الهوية الفردية، ومع ذلك فهو يرفض أن يلصق صفة التطرف على مختلف التيارات الأصولية الأمريكية حيث يعتقد بأن هذه الجماعات الأصولية منفتحة على التكوينات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الغربية. ومع ذلك فإن الأصوليين يمكنهم دائما استخدام العنف اللفظي والرمزي والنفسي والسياسي ضد المجتمع العلماني ويمكن لهذا العنف أن يكون مؤثرا جدا كما هو الحال في الولاياتالمتحدةالأمريكية ويبدو لنا هنا أن أبليبي لا يأخذ بعين الاعتبار التعريف الذي يحدد الأصولية بوصفها عنفا ضد المجتمع العلماني، وبموجب هذا التعريف فإن هذه الحركات الأصولية الغربية متطرفة أيضا. ومهما يكن أمر العنف الفيزيائي فإن الجماعات الأصولية تشكل منطلقا حيويا لمختلف الاتجاهات الراديكالية المتطرفة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وغيرها كما تشكل في الوقت نفسه موّلدا حيويا للجماعات الطائفية المتطرفة. لقد عرفت الإنسانية جماعات وحركات أصولية سلفية حاولت أن تترجم وجودها الاصطفائي الطهري (صفاء الأصل) بطريقة أيتوبية. ولكن وفي سياق العولمة الطاغية ليس في وسع أية ثقافة أو حضارة أن تبقى في أبراجها العاجية أو أن تكون خارج نطاق التأثير بالحضارات الإنسانية القائمة. فالصفاء العرقي أو الديني أو الحضاري ليس ممكنا أبدا ولم يكن عبر التاريخ، بل كان التفاعل والتواصل بين الكيانات الثقافية قائما وحتميا في رحاب الزمن. ومع ذلك يجب أن نلحظ أهمية المحافظة على معالم الهويات العرقية والثقافية دون الذوبان والتلاشي، إذ لم تستطع الثقافة الأمريكية أن تذّوب الثقافات الإثنية والعرقية في بوتقة واحدة. لقد قاومت بعض الجماعات العرقية إكراهات التذويب الثقافي والحضاري وحافظت على معالم وجودها وهوياتها المميزة، وتلك هي حالة الجماعات المكسيكية التي حافظت على كاثوليكيتها ولغتها وأصولها الإسبانية.** **مهما يكن العنف الديني ومهما تكن الصيغة التي يرتسم فيها فإن منطلقاته الأولى تأخذ طابعا اجتماعيا- رمزيا. لقد بين كل من ويلمان **Wellman** وتوكينو **Tokuno** بأن تدمير الحواجز الرمزية يشكل منطلق الصراع بين الأفراد والجماعات. ويبين الباحثان في هذا المجال أنه من الطبيعي بالنسبة لجماعة دينية ما أن تشكل هويتها عبر الصراع والنزاع مع الجماعات الأخرى ومع المجتمع العلماني ذاته. ويرى الباحثان أيضا أن نجاح هذه الجماعات يعتمد على عملية تفجير هذا الصراع وإدارته والمحافظة على حضور التوتر واستمراره ضد الجماعات الأخرى والمجتمع المدني ككل، وهم يؤكدون بالتالي على أن العنف الديني ليس ظاهرة معاصرة بل هو واقع تاريخي يمتد عبر الزمن. وهذا الاتجاه الفكري يأخذ أهميته لكونه يركز على الدين بوصفه مشكلا للهوية الاجتماعية والفردية، ومن ثم فهو لا يقلل من أهمية الدور الذي يمارسه العنف الرمزي في عمق العنف الديني. وهذا الاتجاه يجد تعزيزا له في رأي كونيسا الذي يذهب إلى ما هو أبعد في التأكيد على مركزية العنف الرمزي في التكوين الأساسي للإرهاب الديني وهو نوع من العنف يأخذ فيه الرمز أهمية أكبر من الهدف الاستراتيجي للعنف: فالعنف هنا يمارس بوصفه نوعا من التطهير، حيث يصعب تدمير العدو كليا في حرب شاملة، فتكون الحرب الإرهابية نوعا من العدوانية الرمزية الخالصة، وهدفها لا يكون مهما جدا من الناحية العسكرية. فالممارسة الإرهابية تمارس نوعا من الحرب الأخلاقية (الفوقية الروحية لمناضليها) والنفسية (تبين ضعف العدو وجبنه) ودينية (وعد بالجنة والعالم الآخر) ويلاحظ في هذا السياق أن الزمن الذي تمارس فيه هذه الحركات نشاطها الإرهابي غالبا ما يتم اختياره وفقا لمعايير رمزية تتوافق مع أجندات دينية وتواريخ مشبعة بالرموز الدينية الإستراتيجية ان كل ممارسة للعنف سواء بمسوغ الاستفزاز او الدفاع عن مقدس ما او فكرة ما هو دعوة صريحة للطرف الأخر للدفاع عن نفسه بنفس الأساليب فمن يترك الحوار ويسلك نهج العنف يدعو خصمه للمعاملة بالمثل وفي غياب سلطة القانون و الدولة يفسح المجال واسعا لعصبيات أخرى تتشكل على اساس المنهج او الإنتماء الفكري او العائلي او الجهوي لتدافع عن مكاسبها وممتلكاتها وهذا لا يقود الا لموجة من العنف المنظم الذي يرتقي للحرب الأهلية و بالمقياس الديني فتنة والفتنة أشد من القتل لا يستفيد منها اي طرف و لا ينتصر فيها اي كان هي دوامة تعيد انتاج نفسها عبر آلية الثأر ، الفعل ورد الفعل.. لو فهم ذلك المتعصب الذي اختار نهج العنف ضد من يخالفه الراي قول الله في القران : (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ( المائدة 105 ) لنزع عن نفسه أعباء ومسؤوليات كلف بها نفسه لا علاقة لها بالدين، فالإسلام لم يأمر المسلم الا بنصح الأخرين ودعوتهم الى الطريق القويم دون اجبار او اكراه وما ممارسات بعض المجموعات المتطرفة الا عنفا سياسيا وترهيبا للناس لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالإسلام المتسامح الذي يعطي حق الايمان والكفر و يامر الناس للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالإكراه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ، النحل 125 ). يبدو التعاطي مع هذه الظاهرة ضروري وملح بفتح حوار شامل حول العنف السياسي والعنف عموما و رفع الأمية الفكرية عن هذه القواعد التي تنتهج العنف باستدراجها الى الحوار من داخل منظومتها ومقارعتها بالحجة والعمل على إقناعها و تطوير مناهج التعليم لتستجيب لحاجة الناشئة من تربية دينية معتدلة تغلق الباب أمام نزعات التشدد والتطرف كما يجب على السلطة القائمة حاليا ومستقبلا التعاطي بجدية مع الظاهرة باحترام حرية الفكر والمعتقد للسلفي وغير السلفي وعدم المحاسبة على الضمائر والنوايا والمظهر و تجريم كل عمل عنف مهما كان مسوغه ومهما كانت دوافعه لردع كل مستهين بالدولة وقيم المجتمع مهما كان توجهه وعقيدته*** -- *الدكتور عادل عامر * *دكتوراه في القانون وخبير في القانون العام * *ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية وعضو بالمعهد العربي الاوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بجامعة الدول العربية