قال الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: "إن الفساد هو العدو الحقيقي لعمليات التنمية، فلا فائدة من التنمية ما دام هناك من يحاول هدم هذه المنظومة، لذا فمن المنطقي أن تحارب الدولة الفساد بقوة". وأضاف مفتي الجمهورية، في تصريحات، اليوم الجمعة، أن الفسادَ في حقيقته يُشكِّل عقبةً خطيرةً لسيادة القانون والتنمية المستدامة، ويزعزع الثقة بالمؤسسات العامة والخاصة، ويقوِّض الشفافية، ويحول دونَ سنِّ قوانينَ عادلةٍ وفعالةٍ، فضلًا عن إدارتها وإنفاذها والاستناد إليها في إصدار الأحكام القضائية، ومن هنا تكاتَف سائر العقلاءِ من أجل محاربة الفساد والقضاء عليه. وأوضح مفتي الجمهورية أن مكافحةَ الفسادِ لم تكن في ثقافتنا وليدةَ توجُّهٍ عالميٍّ معاصرٍ أو اتفاقيةٍ حديثةٍ، بل إن محاربته ظلَّت إحدي قِيَمنا الحضارية الوطنية والإسلامية، نراها في شريعة الإسلام وحضارته منذ القِدَم، ففي إطارِ الحرص علي حياة الشعوب واستقرارها أكد الإسلامُ علي موقفه الرافض لكافة أشكال الفساد، ونهي عنه وشدَّد علي تحريمه وتجريمه، بل إن دستورَ الإسلامِ قد نصَّ علي أن الله عز وجل لا يحب المفسدين، فقال تعالي في القرآن الكريم في سورة القصص: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، وقد كان ذلك نواةً أساسيةً لقيام الحضارة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، مؤكدًا أن القرآن الكريمَ بيَّن أن السبب في انتشار الفساد بين بني البشر هو بُعْد المنحرفين منهم عن الله تعالي، ومن ثم ضعف الوازع الديني واستساغة ارتكابِ الجرائم، فمن هنا يظهر الفساد ويَشِيع وينتشر بين ضعاف النفوس. وتابع : "التشريعات الإسلامية منذ أن جاء النبي مبعوثًا، كانت منظومة متكاملة لإيجاد الصلاح ومحاربة الفساد علي كافة المستويات، كما عملت علي تعميق الرقابة الذاتية عن طريق غرس القيم وإقامة العبادات علي وجه التكليف، فيحدث عند الإنسان شعور بالمسئولية ينطلق به للمجتمع، فيتعامل من منطلق هذه القيم". وعن كيفية مواجهة النبي صلي الله عليه وسلم للفساد في عصره قال مفتي الجمهورية: إنه صلي الله عليه وسلم كان يقوم بنفسه بمهمة محاربة الفساد، ويطوف بالأسواق ليري السلع ومدي جودتها، فأصَّل بذلك لمسألة الرقابة، فكان يسأل العمال عن مصدر أموالهم، فقد صح عنه صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اسْتَعْمَلَ عَامِلاً، فَجَاءَهُ العَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ: «أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أَيُهْدَي لَكَ أَمْ لا؟!» وأردف مفتي الجمهورية قائلًا: وقد تابع الصحابة الكرام النبي صلي الله عليه وسلم علي هذا المنهاج فها هو سيدنا عمر بن الخطاب يعيِّن الشفاء -وهي امرأة- مُراقبةً لحركة السوق وعرض السلع وضمانات جودتها فيما يُعرف بنظام "الحسبة"، الذي تطور الآن ليصبح موزعًا علي عدة أجهزة رقابية في الدولة الحديثة. وأضاف مفتي الجمهورية أن الإسلام قصد لحفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل، وهي المقاصد العليا للتشريع الإسلامي، وبالحفاظ عليها يستقر المجتمع، أما إذا جري الإخلال بها فقد يفسد المجتمع. وثمَّن المفتي جهودَ الدولة ومؤسساتها الرقابية والتنفيذية التي تسعي بكامل طاقتها إلي تحقيق العدالة الاجتماعية في سبيل مكافحة الفساد، وقد اتخذت العديد من القرارات الجسورة التي من شأنها تحقيق قدرٍ أكبر من التوزيع العادل للمنافع والثروات. وناشد مفتي الجمهورية مراكز البحوث العلمية بضرورة ارتباط البحث العلمي بالأخلاق حتي لا يكون هناك فساد علمي أو طبي، كما يحاول أن يسلكه البعض في بعض البحوث والعلاجات، قائلًا: "نحن في حاجة ماسة لاتخاذ تدابير دولية أساسها الأخلاق تخص مسألة توزيع لقاح كورونا". وأشار إلي أن الفساد يتنوع في مجالات عديدة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو أُسرية، حتي فساد العلاقة مع النفس بترك العبادات وغيرها، ويجب محاربة الفساد في شتي المواطن، لأن الإسلام جاء ليصلح المجتمعات والأفراد بمنظومة تشريعية متكاملة لكافة تعاملات الحياة، مما يؤكد أن محاربة الفساد فريضة إسلامية ينبغي أن تُفَعَّل، وهي من فروض الكفايات التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع بكامله لتحصيل كل ما يؤدي للصلاح ودفع ما يؤدي للفساد. ولفت المفتي النظر إلي أن الإسلام سن تشريعات متعددة من شأنها القضاء التام علي الفساد بكل صوره وأشكاله، وانتهج في سبيل ذلك سياستين، الأولي: وقائية احترازية، والثانية: علاجية عقابية. وأكد المفتي أن السياسة الأولي للإسلام في مكافحة الفساد تكمن في تربية الفرد وتنشئته علي حب الله ومراقبته في كل سلوك وتصرف يصدر منه، كما اتخذ الإسلام سلسلة من التدابير الاحترازية لمنع وقوع جريمة الفساد قدر الإمكان، وذلك من خلال سد الطريق أمام كافة الأسباب المؤدية إلي الفساد، كالفقر، وغياب المحاسبة، وعدم المساواة، وجشع النفوس. وعن جهود دار الإفتاء المصرية في محاربة الفساد من خلال فتاويها قال مفتي الجمهورية: إن دار الإفتاء المصرية قد وقفت في طليعة مؤسسات الدولة تكافح الفساد وتواجهه في سياق رسالتها المتمثلة في بيان الأحكام الشرعية في إطار من الانضباط المؤسسي الواعي بتحقيق مصالح الخلق في ظل مقاصد الشريعة، فلم تترك دار الإفتاء فرصة لمحاربة الفساد والتنبيه علي مظاهره وأخطاره إلا وقامت باستثمارها، فأصدرت الفتاوي التي تبين حرمة الاعتداء علي المال العام، وحرمة التعدي علي الملكية الشائعة واستغلال الطرقات العامة وأراضي الدولة، ونشرت فتاواها في تحريم دفع الرشوة وتحريم الاحتكار، وغير ذلك كثير. وقال المفتي: إن التقصير في العمل والتقاعس عنه وأخذ الرشوة القليلة هو من الفساد، وبرغم كونه فسادًا صغيرًا فقد يؤدي لخلل كبير في المجتمع يقترب من الفساد الكبير. وأشار مفتي الجمهورية إلي نوع جديد من الفساد، وهو المساهمة في نشر الأخبار علي مواقع التواصل الاجتماعي دون التحقق منها بما يضر الدولة أو الأشخاص بغرض مكاسب مادية ومعنوية، مؤكدًا علي ضرورة التثبت من الأخبار والمنشورات قبل نشرها. وحذر مفتي الجمهورية أصحاب النفوس الضعيفة الفاسدين قائلًا: تذكروا يوم الحساب، واتقوا يومًا تسألون فيه عن مالكم، وتخيلوا أنكم سوف تعددون فسادكم وانحرافكم يوم القيامة أمام رب العزة جل شأنه".