ذات يوم غير بعيد، وبينما تغتال وحشية الصهاينة أحلام أطفال وعجائز وشباب غزة كتبت سطورا باكية معبرة عن التخاذل العربي في مواجهة الحمم والكيماويات المنصبة علي هذا الكيان الصغير، فقلت: سأصم أذني عن البكاء، سأغمض عيني عن الأحداق الغائرة داخل عظام الوجوه البارزة فوق الأجساد الضامرة، عن نظرة الترجي الممزوجة بالشقاء واللوم والخوف والحزن، سأنسي محمد الدرة، إيمان حجو، صراخ هدي غالية لوعتها.. ذهولها. صدمتها لأشلاء أسرتها، سأنسي مطر النيران من السماء، لون الدماء، والأعين الجامدة المحدقة لكل هؤلاء الشهداء، صرخات الجوع وقسوة برد الشتاء، رعشة الحمي دون وجود قرص دواء، رجفة انتظار الموت تحت القصف، سأنسي الكتاب الممزق والمحروق والمدرسة الموصدة وطريق الغد المسدود،سأنسي انني بشر. ورغم علمي بأن مصر لم تكن أبدا متخاذلة وأن ما يصب عليها من لعنات هو مجرد ألاعيب حواة فكل يريد أن يبرئ ساحته من الهوان علي حساب الشقيقة الكبري إلا أن ما يحدث هذه الأيام يحتاج بالفعل الي وقفة، فقد جاء توقيت افتتاح معبد موسي بن ميمون بمنطقة الموسكي بالقاهرة بعد انتهاء الترميمات صادما، والأكثر اثارة للصدمة ان تتم دعوة حاخامات التطرف وصهاينة من قلب إسرائيل لهذا الافتتاح، ثم يتم تعديل الأمر ليفتتح الحاخامات المعبد قبل موعد الافتتاح الرسمي بأسبوع منعا للحرج إذا ما تواجد هؤلاء الحاخامات في الإفتتاح الرسمي، وكأن اسرائيل لم تعلن عن سرقة أقصد ضم الحرم الابراهيمي منذ أيام وكأن مسجد بلال لم يغتصب جهارا نهارا، وكأننا في بلد آخر لا شأن لنا بما يحدث لمقدسات المسلمين، ورغم غرابة الحدث ولا أبالغ إن قلت وبشاعته، إلا أن التساؤلات لا يجب أن تمر مرور الكرام علي طريقة "صدمة وتعدي"، فإذا كان المعبد اليهودي أثرا مصريا يرمم كجزء من هذه الآثار فما علاقة الصهاينة به، هل مجرد أنهم يهود يعطهم الحق في القدوم لافتتاحه وإقامة شعائرهم فيه في احتفالية خاصة، فإن كان الأمر كذلك فلماذا لم تتم دعوة اليهود المصريين الذين رفضوا الذهاب الي اسرائيل وانتشروا في مختلف البلدان؟ إن الأثر المصري المرمم لا يخص إسرائيل فهو بناء مصري علي أرض مصرية سيتولي إدارته يهود مصريون مقيمون علي هذه الأرض في سلام ولم يبرحوها ولم يعلنوا الحرب علي أحد ولم يضموا مسجدا إليهم ولم يحرقوا بشرا بنيرانهم ولا يتعد عددهم مائة فرد، وهو اثر تابع لقطاع الآثار الإسلامية والقبطية ، فنحن لسنا ضد اليهودية التي تعيش بالفعل في سلام مع ديانتينا، أما القول بأنه من الطبيعي ان ندعوهم لأن بيننا وبينهم معاهدة سلام فهو قول مردود عليه إلا إذا دعوناهم عند ترميم كل أثر اسلامي وقبطي ،فهم كما قلت ليسوا منا وآثارنا حتي وان كانت يهودية لا شأن لهم بها وحضورهم إليها حضور السائح تماما كالقبطي المصري الذي يذهب لزيارة كنائس روما أو المسلم المصري الذي يزور مسجدا في اسطنبول، أو حتي المهاجر الذي تجنس بجنسية أخري متخليا عن جنسيته وعاد الي مسقط رأسه فهو أيضا مجرد سائح حتي وان استبد به الحنين. وعلي وزير الثقافة أن يرد علي ما نشرته صحيفة 'جيروزاليم بوست' من أن الحاخام أندرو بيكر مدير الشئون اليهودية الدولية باللجنة اليهودية الأمريكية كان احد المسئولين عن الترميم، وعلي ما نشره نفس الحاخام في مقال له بجريدة نيويورك تايمز من انه تلقي تحذيرات من وزير الثقافة والدكتور زاهي حواس بأن لا يخبر أحداً بأمر اللقاء الذي تم في سرية تامة بين ثلاثتهم، حيث تم اطلاعه علي الشكل النهائي الذي أصبح عليه المعبد المرمم. وعليه أن يرد علي أنهم يدفعون من أجل الترميم والصيانة ويضعون لهم قدما بما يدفعون علي الرغم من تصريحاته بأن هذه المعابد ترمم دون تمويل أجنبي لأنها جزء من التراث والتاريخ المصري،وعليه ان يقول لنا ما ذنب هذا الشعب أن تجرح مشاعره علي هذا النحو بأن يزمر ويغني القتلة في قلب القاهرة. لقد ابتلعنا الكثير من اجل معركة اليونسكو وجاءت اللطمة الصهيونية لتؤكد انه لن يصح إلا الصحيح، وأن الصهاينة أعداء الأمس واليوم والغد. إن ما يحدث الآن لا يصيبنا بالصدمة والحزن فحسب وإنما يفتح أبواب المزيد من ادعاءات المغرضين علي مصر حتي وان فعلوا هم في الخفاء أضعاف ما يتهموننا به، فالقضية ليست ماذا فعلوا ولكنها موقفنا امام ضمائرنا أولا، وأؤكد ان الكارثة كانت ستصبح مضاعفة إذا ما مر الافتتاح كما كان مقدر له عندما أعلن الوزير غياب المسئولين الرسميين عن الافتتاح وحضور الصهاينة فتلك المقولة جعلتني أندهش أكثر وأتساءل عن هذا الخبر الأسود فكيف نغيب عن افتتاح أثر مصري مرمم ليفتتحه لنا سفير اسرائيلي سابق وحاخامات الصهاينة؟ وإن كان عدم وقوع الكارثة المضاعفة لا ينقي بكل تأكيد أن الكارثة قد وقعت يوم قبلنا بحضورهم حتي وإن كان في افتتاح غير رسمي.