بعد أن مل الوقوف فوق أرصفتنا العربية الهادئة، قرر الربيع فجأة أن يحصل علي جنسية أخري، فغادر ميادين الحرية غير مأسوف علي أنفاسه اللاهبة، وسافر علي متن رحلة تابعة للخطوط الجوية التركية، ليحط رحاله في ميدان 'تقسيم' التركي. وهناك، كما هنا، أفرغ شحنته من الحجارة واللافتات والمولوتوف فوق أرصفة السخط، ليتكرر مشهد الكر والفر والدخان والدماء، وتختلط صيحات الاستهجان مع أنات المصابين وأصوات الانفجارات وسيارات الإسعاف. وعلي مقعده المتأرجح في اسطنبول، جلس أردوغان يرغي ويزبد، ويهدد ويتوعد المتطرفين المرتزقة الذين يريدون تدمير البلاد وإدخالها في نفق الفوضي المظلم. وبينما كانت قنوات التلفزة الحكومية مشغولة بالترويج لحملة رئيس الوزراء المفدي ضد التدخين، كان المتظاهرون يضمدون جرحاهم ويناهضون الفاشية الأردوغانية بنقوش الجرافيتي المحيطة بميدان 'تقسيم'. لكن أردوغان، الذي أراد أن يحول ميدان الصراع إلي ثكنة أتاتوركية علي النسق العثماني، صمم علي بقاء جنده هناك حتي يتم إخلاء الميدان من المرتزقة المأجورين. لكنه اضطر أمام دبيب الأقدام الغاضبة ولهيب الأصوات الحانقة أن يتراجع ويترك الميدان غنيمة لأمراء الحرية حتي حين. لكن رجل 'العدالة والتنمية' العنيد، لا يزال مصرا علي تحويل حدائقه العامة إلي ثكنات تركية رغم كل شيء - أو هكذا يقول. الغريب في المشهد أن الثائرين ضد الطغيان الإخواني في تركيا اصطفوا للصلاة في ميدانهم الفسيح كما اصطف ثوار تحريرنا ذات تقوي. ليس التمرد علمانيا كما قد يحلو للبعض أن يروج، وليس زندقة ولا خروجا علي الحاكم المسلم العادل الذي أخرج تركيا من عهرها الأتاتوركي وألبسها ثوب الفضيلة الإسلامي إذن. وليس المتظاهرون في 'تقسيم' من مدمني الخمر الذين تجمهروا رفضا للتشريع الأخير الذي أقره الرجل والذي يحد من تداول الخمور وبيعها في الأناضول كما سيدعي الإسلاميون لاحقا. الأمر أكبر من ذلك بكثير. 'فحين تولي أردوغان السلطة، ' يقول سيردر سيليك 'كان الرجل متحدثا بارعا شديد الإقناع.' أما الآن، فقد أصبح الرجل 'مجنونا تماما، لا يعي ما يقول ولا ما يفعل.' فهو 'ينتقد الأسد، ويأتي فعله، ' كما يقول مراد ألوداج. ولأنه 'ديكتاتور كاذب، استغل الدين لحصد أصوات الناخبين، ' فلن ينتخبه سيليك ولا مراد اللذان انتخباه في المرة الأولي. لا يُلدغ 'أنقري' من جحر مرتين، هكذا تعلم الأتراك من أسلافهم، وهكذا تعلمنا ثورات الربيع الشرق أوسطي - لم يعد من حقنا أن نسميه عربيا الآن بعد أن تجاوز حدودنا العربية المقدسة. وفي تركيا، لا يجد المرء غضاضة في التمرد علي حزب 'العدالة والتنمية' دون أن يجد نفسه مدانا بالفسوق أو الخروج علي الحاكم المسلم. ولا يجد الأتراك حرجا في أنفسهم وهم يقفون في ميدان 'تقسيم' منددين بحزب إسلامي، فإذا ما أقيمت الصلاة وضعوا لافتاتهم تحت نواصيهم ليسجدوا لله الواحد. يعرف الأتراك في أعماقهم أن الإسلام ليس لافتة ولا شعارا إذن، وأنهم لا يثورون ضد الإسلام حين يتمردون علي فئة ترفع شعار 'الإسلام هو الحل'. لم يرفع رواد 'تقسيم' لافتة ضد الإسلام ولم يطالبوا بإسقاطه لأنهم يعلمون أن رجلا واحدا، مهما كانت تقواه، لا يمثل الإسلام وإن مثل 'جماعة' تستطيع اكتساح كافة الانتخابات في مهد الخلافة. يستطيع أردوغان اليوم أن يملأ فاه بالصراخ والعويل، وأن يهدد الخارجين علي سلطان القهر في ميادين الحرية بأنه يستطيع بصيحة واحدة أن يملأ اسطنبول بأضعاف أضعافهم. ويستطيع أن يلقي قنابل الدخان فوق المطالبين بالحرية من طائرات الهليكوبتر. ويستطيع أن يدعي أن الشرعية الوحيدة في البلاد لصندوق الاقتراع. لكنه لن يستطيع لجم الجموع الغاضبة في ميادين الكرامة إلا عندما يقرر التخلي عن غطرسته والنزول من منبره العثماني للتحدث إلي الشارع التركي بكافة أطيافه، لأنه حين تندلع الثورات لا ينفع حاكم حزبه ولا أردوغان جماعته. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]