بعد رحيل الرئيس التونسى الباجى السبسى فى الخامس والعشرين من يوليو الماضى تدخل التجربة التونسية اختبارا جديدا يتعلق بكيفية اجتياز المرحلة الانتقالية من الآن وحتى انتخاب رئيس جديد.أما اجتياز المرحلة بنجاح فسيكون مرتبطا بالتفاهمات الواقعية التى أبرمها الإسلاميون والعلمانيون بمعية شخصيات مثل الرئيس السبسى كعلمانى من جهة والغنوشى من جهة الإسلاميين، فلقد نجح الرئيس السبسى بعد الثورة فى إحراز التوافق بين العلمانيين والإسلاميين على كتابة دستور حقق من خلاله مواءمة بين مفهوم الدولة العلمانية والتعددية السياسية البعيدة عن إرهاب الإسلام السياسى. ولهذا يظل اجتياز هذه المرحلة الآن مشروطا بالتفاهم بين الطرفين؛ لذا بات يتعين على التجربة التونسية أن تثبت أن التعددية الحزبية بين العلمانيين والإسلاميين يمكن أن تتحول إلى عنصر استقرار للنموذج الديمقراطى، ولا يتم هذا إلا عبر لجم نزعات التفرد بالسلطة. أى الارتفاع فوق الأنا وبالتالى تجاوز الحدود الفئوية والابتعاد عن لغة الأحقاد والغلو من الطرفين. ويظل مطلوبا من الطرفين الحفاظ على هيبة الدولة التونسية التى أرساها الرئيس السبسى ومنع من خلالها إنزلاق البلاد إلى الفوضى. بل وحقق عبرها إنجازا سياسيا خلاقا جعله يحتل مكانة بارزة فى تاريخ تونس ليصبح بفضله شيخ الليبرالية التونسية فى القرن الحادى والعشرين. ولهذا نقول ليت التجربة التونسية اليوم تتمكن من الحفاظ على الصورة الوضاءة التى أرساها السبسى بذكائه السياسى الحاد، وقدراته البراجماتية، وحرصه على التعايش حتى مع خصومه. وهو ما مكنه من أن ينجح فى تأمين الانتقال الديمقراطى وإرساء الاستقرار فى البلاد؛ حيث كان هو مهندس الوفاق الوطنى والمناصر لوحدة الصف المبنى على الحوار والحريص على إنجاح الخيار الديمقراطى. لقد شكلت حياة السبسى نموذجا للاصرار والتحدى؛ حيث امتلك شخصية ذات ملامح مميزة أفنى من خلالها حياته فى سبيل خدمة شعبه ووطنه وجسد رمزا ونموذجا لوجه تونس الحضارى. ويكفى أنه البطل الذى مكن بلاده من أن تتجاوز تداعيات الانتفاضات العربية، فبفضله تم إنقاذ التجربة الديمقراطية فى تونس فى السنوات التى تلت ثورات الربيع العربى بداية من عام 2011، وبذلك ظهرت تونس نموذجا للتحول الديمقراطى الناجح. ولهذا فإن المأمول اليوم أن تظل الأمور فى تونس تحت السيطرة ويتم اجتياز المرحلة الحالية بثبات.وهنا يراود الجميع الأمل فى أن تظفر تونس برئيس يتبنى قانون المصالحة الوطنية ويدافع عنها مثلما فعل السبسى عندما ركز عليها فى خطاب فوزه بالرئاسة فأكد أهميتها وتعهد بأن يكون رئيسا لكل التونسيين. لقد لعب السبسى دورا فعالا فى ضمان الاستقرار السياسى وظهر كرجل توافقى حكيم عندما رفض إغراءات الثورات المضادة وعزز هذا بدخوله فى تحالف سياسى مع النهضة على الحكم، ومن ثم اعتبر إحدى دعائم الاستقرار الديمقراطى والوفاق الوطنى ووحدة الصف المبنى على الحوار. إنه هو الذى أثبت فى مراحل مختلفة من مسيرته السياسية أنه زعيم وطنى وقائد حريص على دولته. نجح فى تأمين الانتقال الديمقراطى وكان مهندس الوفاق الوطنى مناصرا لوحدة الصف ولهذا كان رحيله خسارة كبيرة ليس لتونس فقط بل لكل الدول العربية ولكل محبى السلام فى العالم. لن ينسى أحد له دفاعه عن الحق والعدالة وحرصه على معرفة أدق التفاصيل بالنسبة لكل الأمور المتعلقة بالدولة. ويكفى أنه هو الذى حمى تونس وعزز استقرارها وديمقراطيتها فى أصعب الظروف. قد تسود اليوم حالة توجس وترقب لدى التونسيين إزاء ما ستؤول إليه الأوضاع فى البلاد بعد رحيل الرئيس السبسى. ولذا يتعين على الجميع التكاتف ودرء الخلافات والتمسك بالدستور وبمؤسسات الدولة لكى تظل تونس واجهة ومحتوى تظفر بالعيش فى فترة وردية لا تتخللها فوضى ولا انقلابات. ويظل الجميع يتمنون لتونس الحبية أن تنجح فى إرساء الانتقال الدستورى السلس خاصة أن رحيل الرئيس السبسى جاء فى فترة تستعد فيها تونس لانتخابات تشريعية ورئاسية. وهنا تظل الآمال عالقة برئيس توافقى قادر على الصمود وتجاوز كل الأزمات.