انتظر الناس خطاب الرئيس محمد مرسي مساء السبت الماضي، لكن الخطاب لم يأت بجديد، ولم يهدئ المشاعر الغاضبة، بل جاء ليزيد الأمور احتقانًا، بعد أن تجاهل الرئيس وعده بأنه لن يوافق علي مشروع الدستور إلا إذا كان دستورًا توافقيًا. لقد قرر الرئيس طرح مشروع الدستور للاستفتاء في الخامس عشر من شهر ديسمبر الجاري، دون أي تعديل، أو حوار مجتمعي حول مضمونه، رغم أنه حوي مواد تعصف بالحريات والإشراف القضائي، وتجعل منه دستورًا لجماعة محددة متجاهلاً غالبية القوي المجتمعية. لقد قال الرئيس 'أعينوني بقوة فيما حملتموني من مسئولية في إدارة شأن الوطن'، ونحن نتساءل بدورنا ومن يعين الوطن ويخرجه من كبوته وحالة الانقسام التي تهدد بحرب أهلية بين أبنائه، بعد أن تزايدت حدة الفرقة والاستقطاب والتي هي نتاج قرارات ديكتاتورية تصدر عن الرئيس دون تشاور حتي مع أقرب مستشاريه. لقد أعلن عدد كبير من هؤلاء المستشارين براءتهم من الإعلان الدستوري الجديد، بل إن مساعد وزير العدل المستشار هشام رؤوف أعلن في تصريح تليفزيوني أن نائب الرئيس محمود مكي ووزير العدل أحمد مكي لم تتم استشارتهما في مضمون هذا الإعلان، ولم يكذب أيٌّ منهما هذا التصريح، مما يؤكد مصداقيته وصحته، وهو أمر خطير، يعكس تجاهل الرئيس لاثنين من أهم المعنيين بالأمر. إن ذلك يؤكد بلا جدال أن هناك أطرافًا أخري هي التي تصنع القرارات، وتجعل من نفسها وصية علي مؤسسة الرئاسة، وأقصد هنا جماعة الإخوان المسلمين التي يبدو أنها تغلغلت وأصبحت صاحبة الحل والعقد داخل مؤسسات الدولة المختلفة. وبالرغم من حالة الرفض العارمة لهذا الإعلان الدستوري، وانطلاق التظاهرات المليونية التي طالبت بإ لغائه، إلا أن الرئيس رفض كل ذلك، واستمر علي عناده مهما كان الثمن في المقابل، وهو ذات النهج الذي كان يتبعه الرئيس السابق، والذي كان سببًا في الثورة عليه والإطاحة به. إن ذلك لا يعكس تحديًا لمطالب الجماهير التي احتشدت في العديد من ميادين مصر رافضة لهذا الإعلان فحسب، ولكنه أيضًا يؤكد إصرار الرئيس وجماعته علي الإمساك بكافة الأدوات والآليات التي من شأنها استمرار الحكم الأبدي لجماعة الإخوان في مصر، دون النظر إلي أية اعتبارات أخري. لقد جاء مشروع الدستور الجديد ليمثل انقلابًا علي الأهداف التي طرحتها ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهو ما دفع الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح إلي القول: 'إن الرئيس لم يف بوعده في العمل علي اطلاق دستور توافقي، وإن الدعوة للاستفتاء علي دستور دون توافق تمثل إصرارًا علي تقسيم الوطن وترسيخًا لانقسام المجتمع!! هذا هو رأي د.عبدالمنعم أبو الفتوح الذي هو واحد من رموز العمل الإسلامي، ولا يمكن احتسابه في الوقت الراهن ضمن القوي المعارضة لمواقف الرئيس محمد مرسي، بل كان سندًا قويًا له في الانتخابات الرئاسية، وهو دائم التواصل والحوار معه حتي اللحظة الأخيرة. لقد تابع الرأي العام بالأمس وقائع الحشد المحمول برًا من كافة المحافظات إلي ميدان النهضة في الجيزة، وأدرك الكافة أن الرئيس وجماعته إنما يريدون إرهاب المجتمع والتلويح له بهذا الحشد الذي تطاول علي الجميع، وأطلق من الشعارات ما يرسخ الفرقة ويمهد الطريق أمام انهيار وحدة البلاد والدفع بها إلي أتون الهاوية. وهكذا يثبت الرئيس مجددًا أنه رئيس لجماعة بعينها، وانه لم يخلع بعد ثوبه الحزبي، وانه يتعامل بمنطق 'من ليس معنا فهو ضدنا'، متجاهلاً بقية أفراد الشعب الذين ظنوا لبعض الوقت أن الرئيس سوف يحدث نقلة في الأوضاع المجتمعية بما يحقق ترسيخ كيان الدولة وينهي حالة الفوضي التي سادت البلاد في أعقاب الثورة. لقد أصبح منطق القوة هو السائد في حسم الصراعات السياسية في الوقت الراهن، ليس لحساب دولة القانون والديمقراطية والدستور، وإنما لحساب ترسيخ سياسة الأمر الواقع وإخضاع المجتمع لحكم استبدادي لعقود طويلة من الزمن. لقد اعتدي رئيس الدولة علي الدستور والقانون وحنث بالقسم الذي أقسمه أمام المحكمة الدستورية العليا، وتغول في سلطته علي حساب السلطات الأخري، فأصبح مالكًا للسلطات التنفيذية والتشريعية وأيضًا حصن قراراته في مواجهة السلطة القضائية التي اعتدي علي اختصاصاتها وتجاهل وجودها من الأساس. وهكذا أصبحنا أمام حالة نادرة في التاريخ المصري الحديث، فراح الناس يتحسرون علي دماء الشهداء التي سقطت في الميادين دفاعًا عن حرية الشعب المصري، وبدأت حالة من السخط تعم قطاعات واسعة من الناس بعضها كان مؤيدًا لانتخاب الرئيس محمد مرسي وداعمًا له، وفي كل ذلك غابت الأصوات العاقلة، وتكشفت المواقف، وانقسم المجتمع وبدأنا نشهد حربًا مكشوفة في الشوارع، وخلطًا للمفاهيم والحقائق. إن مشهد الأمس، وهذه التجمعات الحاشدة التي حاصرت مبني المحكمة الدستورية العليا، وإرهابها لقضاة المحكمة أمر يؤكد أن البلاد دخلت إلي مرحلة الفوضي، وان مثل هذه الأمور، لا يمكن أن تأتي جزافًا، أو بالصدفة، بل هي نتاج تخطيط محكم، هدفه بالأساس استخدام هذه الحشود لكسر إرادة المؤسسات وإرهابها وإخضاعها لمطالب السلطة الحاكمة. إن الغريب في الأمر أن كافة الجهات الأمنية ظلت تراقب الحدث وكأنها غير معنية، لأنه لا يوجد لديها قرار بالتدخل لضمان أمن المحكمة وحرمتها، وهي رسالة ليست موجهة إلي المحكمة الدستورية العليا فحسب، بل هي موجهة إلي كافة المؤسسات الأخري التي تحاول الحفاظ علي استقلاليتها في مواجهة هذا التغول الخطير للسلطة التنفيذية. الهدف معروف، ورئيس الدولة استبق حكم المحكمة فيما يتعلق بمجلس الشوري والجمعية التأسيسية ليصدر قراره قبل الحكم بساعات قليلة بدعوة المواطنين إلي الاستفتاء علي مشروع الدستور، ولو كان هناك احترام للقضاء كما قال الرئيس لانتظر ساعات قليلة حتي تصدر المحكمة حكمها، وليس أمامه سوي الاستجابة لهذا الحكم المنزه عن الهودي والذي يلتزم بصحيح الدستور والقانون. لقد أصبح الرئيس مرسي وجماعته، الآمر الناهي في شأن هذا البلد، دون اعتبار لأية مؤسسات حكومية كانت أو غير حكومية، لم يعد للرأي العام قيمة، ومصالح الجماعة وطموحاتها أصبحت أعلي من المصلحة الوطنية للبلاد. لقد منع بالأمس قضاة المحكمة الدستورية العليا من الدخول إلي المحكمة وعقد الجلسة المحددة للنظر في الدعوي المقامة بحل مجلس الشوري ودعوي آخري بحل الجمعية التأسيسية، ولم يستطع الأمن فتح الطريق أمام قضاة المحكمة التي لا يجوز لها أن تنعقد إلا بداخل مقرها، وهو أمر يكشف عن أن هناك قرارًا قد اتخذ علي أعلي مستوي بقطع الطريق أمام المحكمة للانعقاد. إن هذا التطور الخطير يعزز الرأي القائل بأن مؤسسة الرئاسة قررت الدخول في الصراع المجتمعي بشكل مباشر، ليس فقط لعرقلة عمل المؤسسات وإنما أيضًا بإطلاق يد هذه العناصر والمليشيات لمواجهة كافة المعارضين، مما يهدد بنيان المجتمع ووحدته من الأساس. لقد سادت البلاد حالة من القلق والخوف الشديد علي ما يجري علي أرض الواقع والسيناريوهات المتوقعة خلال الفترة القادمة، فالقوي الشعبية وجبهة الانقاذ لن تستسلم لسياسة القمع والإرهاب، وهي ستواصل طريقها، كما أعلن بالزحف إلي قصر الرئاسة، والقوي الأخري المؤيدة لنهج الرئيس باتت مطلقة في الشارع، مما يدفع البلاد إلي صدام عنيف، لا نعرف إلي أين يمكن أن ينتهي. لقد غاب صوت العقل، وأصبحنا جميعًا أمام سيناريهات جديدة، تدفع البلاد بعيدًا عن لغة الحوار إلي لغة العنف، وذلك بفعل إصرار السلطة علي إخضاع الرأي العام لقوانينها وقراراتها التي تتصدام مع الدستور والقانون. قد يظن البعض أن جماعة الإخوان ومن حولها قادرون علي اخضاع الشعب المصري وتركيعه، عبر التهديد والارهاب، غير أن ذلك يتصادم مع حقائق الوقائع التي تؤكد يوما بعد يوم أن الشعب المصري لن يعود مرة أخري إلي حظيرة الاستعباد مهما كان الثمن في المقابل. إننا لا نهتم كثيرا بالرأي العام الدولي وردود الفعلعلي هذه الأجراءات التعسفية، ونرفضة أية محاولات للاستقواء بالخارج، إلا أن كثيرا من المراقبين توقفوا أمام رد الفعل الأمريكي الباهت علي قرارات الرئيس واصراره علي المضي في طريقه، وقارنوا هذا الموقف بموقف ذات الإدارة الأمريكية من نظام مبارك أثناء الثورة!! كان الموقف مختلفا تماما، ورغم إبداء النظام السابق استعداده للتراجع عن الكثير من مواقفه وقوانينه إلا أن الرئيس أوباما ظل يمارس شتي أنواع الضغوط علي الرئيس السابق حتي اللحظة الأخيرة. الموقف الآن يبدو مختلفا، فواشنطن اعتبرت أن ما يجري هو شأن داخلي، وأقصي موقف أعلنته وزيرة الخارجية الأمريكية هو التعبير عن القلق والسرعة في إجراء الاستفتاء علي مشروع الدستور. إن تحليل ذلك الموقف، يجعلنا أمام خيار من اثنين: إما أن واشنطن تؤيد هذا النظام بكل قوة لحسابات اقليمية ودولية، تكتيكية واستراتيجية ومن ثم فهي ستبقي سندا قويا لهذا النظام، متجاهلة تجاوزاته واعتداءاته علي الدستور والقانون. وإما أنها راغبة في استمرار حالة الاحتقان وتصاعدها وصولاً إلي الحرب الأهلية، لأن ذلك يخدم نظرية وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة 'كوندليزا رايس' حول الفوضي الخلاقة التي ستؤدي حتما إلي تقسيم البلاد إلي كانتونات طائفية وعرقية. إن واشنطن تدرك تماما صعوبة تقسيم مصر في المدي المنظور لاعتبارات مرتبطة بالتاريخ والجغرافيا، إلا أنها تري أن الصراع الاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد وتصعيد حدته في الوقت الراهن يمكن أن يؤدي إلي قسمة المجتمع بما يحقق التفتيت واستنزاف عناصر القوة وتعطيل عمل المؤسسات، وهي كلها أمور من شأنها أن تدفع مصر إلي الانكفاء علي ذاتها، وانهيار أوضاعها الاقتصادية والأمنية بما يؤدي في نهاية الأمر إلي 'ثورة الجوع' التي ستقضي علي ما تبقي من عناصر القوة المجتمعية وتآكل مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخري. إن الرهان الآن علي الشعب المصري بقواه السياسية الحية والفاعلة، وبنخبته وفئاته المجتمعية المختلفة التي ستكون عليها جميعًا مسئولية تاريخية إما الحرية وإما الاستعباد. نعرف أن يد الإرهاب قد تمتد إلي الجميع، وندرك أن هناك من يسعي إلي التلفيق وسجن المعارضين وإن الفترة القادمة قد تشهد تصفيات لبعض من رفعوا صورهم في المظاهرات والتجمعات من سياسيين وإعلاميين، لكننا علي يقين أن هذا الوطن يستحق منا كل التضحيات، وأن دماءنا جميعًا لا تساوي ذرة من تراب مصر. مدرك أن هناك حملات للإساءة وتشويه المواقف، ونعرف أن هناك من يترصد ويصور الكلمات والرؤي علي غير حقيقتها، لكن كل ذلك لا يجب أن ينال من عزيمتنا، ولا يؤثر في صمودنا، فالمعركة ستحسم في النهاية للمدافعين عن الوطن وثورته وقيمه الأصيلة. أدرك أن المرحلة القادمة صعبة علي الوطن، وما كنا نتمني أن تصل الأمور إلي هذا الحد، ولكن ما العمل وهناك من يريد إدخال البلاد إلي الفوضي والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، الذين وجدوا أنفسهم وجهًا لوجه في فترة تاريخية حظيرة، يحتاج الوطن فيها إلي وحدة الجميع لمجابهة التحديات الراهنة التي تهدد المجتمع بأسره. إن الرئيس مرسي بيده أن يغلق الأبواب أمام 'الفتنة' التي تهدد البلاد، لكنه سيظل علي موقفه وعناده، هكذا رأينا المشهد خلال الأيام القليلة الماضية، وهكذا تمضي الأمور نحو مزيد من التداعيات الخطيرة، لن ترهبنا التهديدات، ولن تنال من عزيمتنا محاولات الإقصاء، لن نخضع للأمر الواقع، ولن نستسلم لجبروت الفرعون الجديد، بل سنظل نناضل دفاعًا عن مصر ووحدتها واستقرارها حتي الرمق الأخير من حياتنا. مصر تحتاج إلي أبنائها المخلصين في هذا الوقت تحديدًا أكثر من أي وقت مضي، لا تهتموا كثيرًا بالمنافقين والمتقلبين، الناس عرفت من معها ومن ضدها، من هو الصادق ومن هو الكاذب، فلا تهتموا كثيرًآ بأسلحة الإرهاب التي تشهر في مواجهة كل المخلصين، معركتنا طويلة، ولكن حتمًا سيتحقق الانتصار، 'وما النصر إلا من عند الله' صدق الله العظيم.