كل ما تريد معرفته عن بطاقة ائتمان التيتانيوم في بنك مصر    بعد اعتقاله، شقيق لاهور شيخ جنكي يهدد ب"تدمير السليمانية"    أسفر عن مصرع وإصابة أسرة بأكملها، أول صور لمنزل سوهاج المنهار ومدير الأمن ينتقل للموقع    بسمة بوسيل تكشف عن تعاونها مع رامز جلال وطرح دويتو غنائي جديد    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 22- 8- 2025 والقنوات الناقلة    أخبار فاتتك وأنت نائم| إيقاف الرحلات الجوية إلى إيران.. جرائم قتل غامضة تهز فرنسا    قمة ألاسكا.. سلام «ضبابي»| ترامب وبوتين «مصافحة أمام الكاميرات ومعركة خلف الأبواب»    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 22 أغسطس 2025    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري الجمعة 22-8-2025 بعد ارتفاعه في 7 بنوك    «زي النهارده«في 22 أغسطس 1945.. وفاة الشيخ مصطفى المراغي    «زي النهارده» في 22 أغسطس 1948.. استشهاد البطل أحمد عبدالعزيز    معجزة جديدة ل أطباء مصر.. طفلة جزائرية تقف على قدميها مجددًا بعد علاج 5 أشهر (فيديو)    أسعار الأسماك والخضروات والدواجن اليوم 22 أغسطس    90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الجمعة 22 أغسطس 2025    كيف يتصدى مركز الطوارئ بالوكالة الذرية لأخطر التهديدات النووية والإشعاعية؟    درجة الحرارة تصل 42 .. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم    إصابة 8 أشخاص.. الاستماع لأقوال المصابين في حادث طريق الكريمات    الجيزة: قطع المياه 6 ساعات اليوم الجمعة حتى غد السبت عن هذه المناطق    شراكة حضارية جديدة بين مصر والصين في مجال التراث الثقافي «المغمور بالمياه»    «مخضوض وواخد على خاطره».. رضا عبدالعال يقيم شيكو بانزا    لو بطلت قهوة.. 4 تغييرات تحدث لجسمك    الإيجار القديم.. محمود فوزي: تسوية أوضاع الفئات الأولى بالرعاية قبل تحرير العلاقة الإيجارية    انفجار مقاتلة أمريكية فى مطار ماليزيا    عاصي الحلاني ينتقد فكرة ظهور المعجبات على المسرح.. ماذا قال؟    علي الحجار ينسج حكايات الشجن.. وهاني حسن يرقص للحياة على أنغام السيمفوني في محكي القلعة    نجم الزمالك السابق يهاجم كولر بسبب عمر الساعي    مقتل شاب في الأقصر إثر مشاجرة بسبب المخدرات    انخفاض جديد في عيار 21 بالمصنعية.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الجمعة بالصاغة محليا وعالميا    صفات برج الأسد الخفية .. يجمع بين القوه والدراما    محمد رمضان يستفز جمهوره في مصر ب فيديو جديد: «غيرانين وأنا عاذرهم»    وائل الفشني يكشف موقفا محرجا تعرض له: «أنبوبة بوتاجاز أنقذتني من بلطجي»    إذاعة القرآن الكريم| هاجر سعد الدين أول سيدة بمتحف الأصوات الخالدة    هل يمكن تحديد ساعة استجابة دعاء يوم الجمعة ؟ دار الإفتاء توضح    «خير يوم طلعت عليه الشمس».. تعرف على فضل يوم الجمعة والأعمال المستحبة فيه    حرق الكنائس.. جريمة طائفية ودعوة للتدخل الأجنبي    بيان «المحامين» يكشف الحقيقة في اجتماعات المحامين العرب بتونس    نجوى فؤاد: أطالب بمعاش يكفي احتياجاتي وعلاجي    نجاح أول حالة غسيل كلوي طوارئ للأطفال بمستشفى دسوق العام    مصر والسعودية علاقات ممتدة وآمال معقودة    تصدر المصري والقطبين "يوم فوق ويوم تحت"، ترتيب الدوري المصري بعد الجولة الثالثة    آدم كايد يعرب عن سعادته بفوز الزمالك على مودرن سبورت    ياسر ريان يشيد بأداء المصري: هو المنافس الحقيقي للأهلي على لقب الدوري    المندوه يكشف آخر تطورات أزمة سحب أرض أكتوبر ويكشف حقيقة المول    التعادل الثالث.. سموحة وزد يتقاسمان النقاط بأمر تقنية الفيديو    ترامب: سأشارك في دوريات مع الجيش والشرطة بواشنطن    أونروا تحذر: عمليات الاحتلال في غزة تنذر ب"تسونامي إنساني" غير مسبوق    تعليم الجيزة تواصل أعمال الصيانة والتجديد استعدادا للعام الدراسي الجديد    قبل انطلاق النسخة الثالثة.. صفقات أندية دوري المحترفين موسم 2025-2026    تنفيذ حكم الإعدام في مغتصب سيدة الإسماعيلية داخل المقابر    تنفيذ حكم الإعدام بحق قاتل زوجين في «مجزرة سرابيوم» بالإسماعيلية    غرق طالب طب بروسيا خلال إجازته الصيفية في مطروح    إعلام فلسطيني: استشهاد طفل بقصف إسرائيلي على مخيم النصيرات وسط غزة    مش هتشتريه تاني.. طريقة عمل السردين المخلل في البيت    مصرع شابين غرقا بنهر النيل فى دار السلام بسوهاج    اليوم.. فصل التيار الكهربائى عن عدد من مناطق وأحياء مدينة كفر الشيخ    خالد الجندي: الدفاع عن الوطن وحماية مصالحه من تعاليم الإسلام    هل يستجاب دعاء الأم على أولادها وقت الغضب؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس المعاهد الأزهرية يتفقد المشروع الصيفي للقرآن الكريم بأسوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حذار من "المَدَنيٌّة" و"المَدَنيٌّ" في الدستور
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 20 - 05 - 2012


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب:70] لم أجد مصطلحاً يثار حوله الجدل ويختلف العامة والخاصة في تفسيره أكثر من مصطلح "المَدَنيٌّة" .. كما لم أجد في لغتنا العربية لفظاً ألصق به العديد من المعاني والاستخدامات المستحدثة أكثر من لفظ "مَدَنيٌّ". وإن المعاني والاستخدامات المستحدثة للفظ "مَدَنيٌّ" تتعارض مع معانيه الأصيلة في لغتنا وفكرنا وثقافتنا .. والعجيب أنها تتعارض مع بعضها البعض .. وهذا التضاد في المعاني والاستخدامات لنفس اللفظ يستتبعه الغموض في التعبير ويؤدي حتماً إلي سوء الفهم وارباك الفكر. وإني أحمد الله أن '"مَدَنيٌّ" - "المَدَنيٌّ" - "مَدَنيٌّة" - "المَدَنيٌّة"' ليست من ألفاظ القرآن الكريم .. وأحسب أن هذه الألفاظ لم ترد في كتاب الله مصداقاً لقوله تعالي: ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد﴾[فصلت:42] .
أولاً: المعاني والاستخدامات الأصيلة للفظ " مَدَنيٌّ " ومصطلح " المَدَنيّة "
لفظ "مَدَنيٌّ" ومصطلح "المَدَنيّة" أسماء منسوبة إلي "مَدِينَة" .. فإن بيان معانيهمواستخداماتهمالأصيلة في لغتنا وفكرنا وثقافتنا يستلزم البدء ببيانالمعانيوالاستخداماتالأصيلة لكلمة"مَدِينَة" :
- تَجَمُّع عُمْرَانِيّ مَسْكُون .. وهو نفس تعريف القرية إلا أن المدينة تفوق القرية في العمارة وعدد السكان واتساع المساحة ... إلخ .. قال تعالي: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَيالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَيٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾[يس:20].
- تُجمَععلي مُدْنٍ ومُدُنومَدَائن .. قال تعالي:﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾[الأعراف:111].
- اسم مؤنث اشتُقّ علي وزن فَعِيْلَة من الفعل مَدَنَ.. ومَدَنَ بالمكان أَقَامَبه.
- أَهْلُ الْمَدِينَة: المقيمون فيها أو سكانها .. قال تعالي: ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الحجر:67]. وقد يستخدم اسم العلم للمدينة ليشير إلي مجمل أهلها.. قال تعالي: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾[الشعراء:123].. والمقصود أهل عاد.
- تمدَّنَ يتمدَّن تمدُّنًا فهو مُتمدِّن: عاش عيشة أهل المدن وتخلق بأخلاقهم .
- "الْمَدِينَة" : اسم علم .. يقصد بها "المَدِينَة المُنَوَّرَة" .. حيثأطلق هذا الاسم علي"يثرب"تشريفاً لها بعد الهجرة لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم مَدَنَ بها.
ولفظ "مَدَنيٌّ" اسم منسوب إِلي "مَدِينَة"'النَسَب إلي "فَعِيلة": تحذف تاء التأنيث وتحذف ياء "فَعِيلة" ويفتح ما قبلها' ..كما يصح استخدام لفظ "مَدِينيٌّ" عند النسب إِلي "مَدِينَة" 'النسب إلي ما آخره "تاءالتأنيث": تحذف تاء التأنيث' .. وجاء في مختار الصحاح أن النسبة إلي مَدِينَة الرسول صلي الله عليه وسلم "مَدَنِيٌّ" وإلي مدينة المنصور "مَدِينيٌّ" وإلي مدائن كِسري "مَدَائِنيٌّ".
ولفظ "مَدَنيّة" مؤنث "مَدَنيٌّ" 'نسبة إلي مَدِينَة' .. وبالطبع لهماللفظ "مَدَنيٌّ" من معاني واستخدامات .. ومعلوم - مثلاً - أن بعض سور وآيات القرآن الكريم مَدَنيّة نسبة إلي المَدِينَة المنورة.
أما "المَدَنيّة" 'اصطلاحاً' فمصطلح مستحدَث في اللغة العربية .. ورغم أن تحديد تاريخ أول استخدام لهيحتاج إلي مزيد من البحث .. إلا أن استحداثه تم - غالباً -في النصف الأول من القرن التاسع عشر أثناء فترة ولاية محمد علي باشا '1805-1848' كترجمة لمصطلح "Civilization" الذي تم استخدامه لأول مرة - في اللغتين الفرنسية والانجليزية - في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك الحين تم استخدام مصطلح "المَدَنيّة" بمعني "الحداثة" للإشارة إلي مظاهرالتقدم في العمران وأساليب الحياة المتطورةووسائل الترفيه والمنجزات العلميةفي مجالات الاتصال والانتقال ... إلخ.
وجدير بالذكر أنه علي الرغم من أن لفظ "المَدَنيّة" اسم منسوب إلي "مَدِينَة" .. فإن مصطلح "المَدَنيّة" لا يشير إلي ما تحويه "الْمَدِينَة" خاصة .. ولكنه يشير إلي مظاهرالحداثة والتقدمعامة دون التقيد بالمكان .. وعلي سبيل المثال : "الهندسة المَدَنيّة" تخصص في مجال الهندسة يهتم بتشييد المساكن وتعبيد الطرق وبناء الجسور والسدود ...إلخ بغض النظر عن مكان التنفيذ مَدِينَة أم قرية ... إلخ.
ثانياً: المعاني والاستخدامات المستحدثةللفظ "مَدَنيٌّ" ومصطلح "المَدَنيّة"
رغماً عن حداثة مصطلح "المَدَنيّة".. إلا أنه قد شاع استخدامهكبديل لمصطلح "الحضارة" .. واستتبع ذلك شيوع استخدام لفظ "مَدَني" كبديل للفظ "متحضر". و"المَدَنيّة" لا تعني"الحضارة" ..فإن "الحضارة" أعم وأشمل ..وأما "المَدَنيّة" فتقتصر علي الجانب المادي من "الحضارة".. ويقابلها الجانب الفكري والروحي والخُلقي.
و"المَدَنيّة" عالمية ولا تخص أمة بعينها .. حيث أن "المَدَنيّة" نتاج التقدم العلمي في كل مجالات العلوم .. وهو تقدم تراكميلجهود العلماء من شتي الأمم وعلي مدار التاريخ الانساني. وأما "الحضارة" فتختلف باختلاف الأمم .. فلكل أمة تراثها الثقافي الخاص ونظرتهاالمتميزة إلي العالمبسبب اختلاف الأديان والعادات والتقاليد والقيم المتوارثة .. كما أن أساليب التفكير تتنوع بتنوع اللغات وتختلف من ثقافة إلي أخري.
وإن "الاختلاف" لا يعني "الخلاف" 'بمعني التضاد' ولكنه يعني التنوع والتعدد .. وهوأمر طبيعي و ضرورة لا بد منها .. والذي أوجب هذه الضرورة هو الله سبحانه وتعالي .. لأن "الاختلاف" من سنن الله ومن ثوابت نظام الخلق وقانون يعيش في دائرته جميع المخلوقات في هذا الكون المتسع .. قال تعالي:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴿27﴾ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿28﴾﴾[فاطر:27-28].و"الاختلاف" هو الباعث علي الحركة والتفاعل والحياة .. وهل يسري تيار كهربائي إلا بين قطب سالب وآخر موجب؟ .. وهل يتكون مجال مغناطيسي إلا بين قطب شمالي وآخر جنوبي؟ .. وهليحدث تفاعل كيميائي إلا بين عنصرين مختلفين؟ .. إلخ. والإنسان مخلوق في دائرة هذا النظام أيضاً .. فقد خلقنا الله مختلفين في الأشكال والاحجام والألوان والالسن .. قال تعالي:﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾[الروم:22].
وفي ثقافتنا الاسلامية نفهم ضرورة "الاختلاف" كدافع إلي التعارف والتفاعل وإقامة علاقات بينية لتبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة ... إلخ في إطار قبول التعددية وما يطلق عليه "التعايش السلمي" .. قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَيٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات:13]. وعلي النقيض من ثقافتنا .. فإن الثقافة الغربية لا تعترف بالاختلاف ولا تقبل التعددية .. ولكن تؤمن بحتمية "الصراع"وبأنهوفق نظرية داروين "البقاء للأصلح" .. فلا بقاء لمن يختلف عنهم ويجب أن ينبذ عن طريق "اصطفاء الأنواع" .. بل يجب إقصاءه حتي ينقضي ويفني.ولهذا فقد اعتمدت الأمم الغربية 'طوال تاريخها' سياسات عدوانية لتحقيق مصالحها قسراً علي حساب باقي الأمم .. كما سعت إلي فرض إرادتهاومعتقداتها وثقافتها ونمط معيشتها في محاولة للقضاء علي "الاختلافات" بين الأمم وإنشاء ما يطلقون عليه اليوم النظام العالمي أو "العولمة" 'Globalization'. وإن مساعي الغرب إلي "العولمة" لم ولا يمكن أن يكتب لها النجاحوتدل علي سذاجة بيّنة .. ولكنهم لا يقرون بفشل محاولاتهم التاريخية السابقة القضاء علي "الاختلاف" ويظنون أنهم أقدر من أسلافهم ..كما أنهم لايدركون أن إستمرار هذه المحاولات لن تثمر إلا توسيع دائرة "الخلاف".. والسبب عدم إيمانهم بأن "الاختلاف" غير خاضع لمشيئة وإرادة الإنسان وأن مشيئة الله تعالي اقتضت أن يخلق الناس جميعاً مختلفين ..قال تعالي:﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾[هود:118].
وبما أن "الدين" هو المصدر الأول للجوانب الروحية في أي "حضارة" وهو المؤثر الأعظم في تشكيل النظرة الخاصة لكل أمة في الحياة .. فإن "الدين" هو سبب أساسي من أسباب "الاختلاف"بين "الحضارات". وقد أدرك الغرب هذه الحقيقة وأن "الدين" هو قوة الممانعة الرئيسية والحائل دون تحقيق "العولمة" .. وخلص إلي أنه لا يمكن تحقيق "العولمة" إلا عن طريق التذويب الحضاري لسائر الحضارات التي تحمل قيماً مضادة لقيم الحضارة الغربية وعلي رأسها الحضارة الإسلامية باعتبارها المحرك الأول لمقاومة الحضارة الغربية. وفي هذا يقول أستاذ العلوم السياسية الأمريكي صموئيل هنتنجتون'1927- 2008' في كتابه شديد الأهمية والتأثير "صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي - 1996":"إنه لا مجال ولا إمكانية للتعايش مع الحضارة الإسلامية لأنها "تختلف" عن الحضارة الغربية وإن المواجهة التي انتهت ضد الحزب الشيوعي تركت الفضاء مفتوحاً أمام مواجهة جديدة لا تكون إلا مع الاسلام وقيمه. والإسلام الذي هو غير قيم الغرب .. بل هو مغاير للحضارة الغربيةولحقوق الإنسان ولسيادة الحق والنظم الديموقراطية يجب مقاومته". وهذا يتناغم مع ما صرح به ريتشارد نيكسون '1913 - 1994'الرئيس الأمريكي '1969- 1974'في كتابه "الفرصة السانحة -1992":"إنه بعد سقوط الشيوعية لم يعد هناك عدو سوي الإسلام".
وبما أن "المَدَنيّة" عالمية علي عكس خصوصية "الحضاراة" .. فإن نشر استخدام مصطلح "المَدَنيّة" كبديل لمصطلح "الحضارة" يجرد مفهوم "الحضارة" من عوامل "الاختلاف" 'الروحية والخلقية والفكرية' .. ويقصر مفهوم الرقي والتقدم والحداثة علي النواحي المادية.فإذا ما تم اعتماد "المَدَنيّة" من قبل الأمم التي تحمل حضاراتها قيماً مضادة لقيم الحضارة الغربية .. تكون - هذه الأمم - قد تنازلت طواعية عن عقائدها وخصوصياتها الحضارية ونظرتها الخاصة للحياة .. فيسهل تذويبها حضارياً ومزجها في الحضارة الغربية لتحقيقً "العولمة".
وللأسف فإن مصطلح "المَدَنيّة" قد لاقي القبول من أغلبية النخب الفكرية والسياسية .. وإعمالاً للمثل الشعبي : "الزن علي الودان أمَر من السحر" .. ملأوا الدنيا صخباً وأمطرونا بمصطلحات لا حصر لها ولكن المشترك الأعظم فيها هو لفظ "مَدَنيٌّ" 'civil' مثل: الدولة المَدَنيّةوالمجتمع المَدَنيٌّوالحقوق المَدَنيّةوالمنظمات المَدَنيّةوالسجل المَدَنيٌّوالطيران المَدَنيٌّوالقانون المَدَنيٌّوالتعويض المَدَنيٌّوالدفاع المَدَنيٌّ... والمدنيون.
وإن الذين يعتقدون في"المَدَنيّة" يبشرون بما يطلقون عليه "المجتمعالمَدَنيٌّ"الذي يقوم علي مبادئ المواطنة والمساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم علي أساس الجنس أو العرق أو ... "الدين". والعجيب أن أخطر مبدأ من مبادئ "المجتمعالمَدَنيٌّ" هو:"عدم التمييز علي أساس الدين" .. لأنه في "المجتمع المَدَنيٌّ" يجب علي المواطن "المَدَنيٌّ" الالتزام بعدم التمييز بين مواطني "المجتمعالمَدَنيٌّ" علي أساس "الدين" .. كما يجب عليه الالتزام بعدم تمييز نفسه عن باقي مواطني "المجتمعالمَدَنيٌّ" علي أساس "دينه"!!
وعلي ما تقدم .. فإن حرية العقيدة في "المجتمعالمَدَنيٌّ" مشروطة بأن تكون بعيداً عن الحياة العامة وأن تقتصر علي إقامة الشعائر الدينية داخل "دور العبادة" .. وعلي المواطن "المَدَنيٌّ" عدم الإعلان عن هويته الدينية بأي شكل من الأشكال بدءاً من مظهره الخارجي وحتي بطاقة هويته. ومن هنا فإن مبدأ "عدم التمييز علي أساس الدين" تم تحريفه من: حرية المواطن في الاعتقاد وفي ممارسة حياته علي أساس عقيدته دون أن يؤدي ذلك إلي التأثير 'سلباً أو ايجاباً' علي أي حق من حقوقه .. إلي: عدم حرية المواطن في الإعلان عن هويته الدينية باي صورة واعتبار ذلك تمييزاً لنفسه عن باقي أفراد "المجتمعالمَدَنيٌّ". وتم تغليف هذا المفهوم داخل شعار "الدين لله والوطن للجميع" .. وهو شعار مغرض ومن زخرف القول لأن الحقيقة هي أن "الدين والوطن ... والكون كله لله" .. قال تعالي: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴿163﴾﴾[الأنعام:162-163].
وعلي ما تقدم .. فإنه يلزم - في "المجتمعالمَدَنيٌّ" - أن يتضمن "القانون المَدَنيٌّ" مواد تجرم تمييز الغير أو النفس علي أساس "الدين" .. والأولي أن لا يتضمن "القانون المَدَنيٌّ" مواد مستمدة من"الدين" 'الشريعة' وإلا أصبح "القانونالمَدَنيٌّ" نفسه يميز علي أساس الدين. وعلي ذلك فعلي نواب "المجتمعالمَدَنيٌّ" 'البرلمان' في النظام "الديمقراطي" 'الذي هو عماد "المَدَنيّة" وتؤمتها "الليبرالية"' أن يراعوا ذلك عند تشريع القوانين.
وبما أن الذي يطبق "القانونالمَدَنيٌّ" علي "المواطنالمَدَنيٌّ" في "المجتمعالمَدَنيٌّ" ويملك سلطة العقاب هي الدولة .. فيجب أن تكون الدولة "مَدَنيّة". إذاً من مهام "الدولةالمَدَنيّة" أن تراقب عدم التمييز علي أساس الدين وتنزل العقاب علي "المواطن المدني" متي:
- ميز بين مواطني "الدولةالمَدَنيّة" علي أساس "الدين".
- ميز نفسه "دينياً"عن باقي مواطني "الدولةالمَدَنيّة".
ومكمن الخطورة يتمثل في "محاكمةالنيات" .. فإذا أطلق غير المتدين لحيته فلا بأس .. أما المتدين فلحيته تمييز .. وكذلك المرأة التي تغطي شعرها. كما أن الفندق - مثلاً - الذي لا يقدم الخمور لزبائنه لأنها ضارة بالصحة أو أي أسباب أخري - طالما لا تتعلق بالدين - فلا بأس مع معاقبته بتخفيض تصنيفه 'نجمة أو نجمتين' .. ولكن لا يجوز له أن يعلن أن سبب امتناعه عن تقديم الخمور لزبائنه هو أنها حرام .. فهو بذلك يميز نفسه عن باقي الفنادق علي أساس الدين. وإن هذا الوضع - إن حدث - يعيدنا إلي الأيام الأولي للإسلام وقت أن كان مستضعفاً في مكة والمسلمون يكتمون ايمانهم خوفاً من التنكيل بهم من قبل المشركين .. ولكن الفارق أنه في ظل "الدولةالمَدَنيّة" و"المجتمع المَدَنيٌّ"يكتم المواطنون "المدنيون" ايمانهم خوفاً من وقوعهم تحت طائلة "القانون المَدَنيٌّ" الذي يجرم تمييز المواطنون "المدنيون" لأنفسهم علي أساس "الدين".
ثالثاً: الخلاصة
إن كان أول الطريق "المَدَنيّة" فإن منتهاه "العولمة" .. التي يسعي الغرب إلي تحقيقها عن طريق التذويب الحضاري لسائر الحضارات التي تحمل قيماً تختلف عن قيم الحضارة الغربية - وعلي رأسها الحضارة الإسلامية - ومزجها في الحضارة الغربية. وإن المعاني والاستخدامات المستحدثة للفظ "مَدَنيٌّ" وما ينطوي عليه مصطلح "المَدَنيٌّة" من فكر وثقافة يتناقض مع فكرنا وثقافتنا والأعراف السائدة في مجتمعنا .. وقد يمتد تأثيره السلبي ليطول عقائدنا ذاتها.
وإني أحذر من أن توصف "مصر" بأنها دولة "مَدَنِيّة" والرئيس "المصري" بأنه رئيس "مَدَنِيّ" والمجتمع "المصري" بأنه مجتمع "مَدَنِيّ" والجمعيات "الأهلية" بأنها جمعيات "مَدَنيٌّة" وحقوق "المواطنة" بأنها الحقوق "المَدَنيٌّة".
وإني أحذر من أن يتضمن "دستور مصر" المرتقب أياً من تلك الألفاظ والمصطلحات.
اللهم قد بلغت .. اللهم فاشهد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.