تحتفل الأوساط الأكاديمية والثقافية هذا العام 2010 ، بمرور أربعين عاما علي اكتشاف مصطلح " العبر مناهجية " - Transdisciplinarity ، الذي صاغه العالم الفرنسي الكبير "جان بياجيه" - Jean Piaget عام 1970. وهي المرة الأولي في الألفية الثالثة التي تنعقد عدة مؤتمرات في عام واحد في العديد من عواصم العالم ، أوروبا والولايات المتحدة واليابان ، حول أحد المصطلحات والمفاهيم (العلمية - الفلسفية) الذي يعبر من الناحية المعرفية عن ظاهرة العولمة Globalization ، والتي تعني " دمج العالم " في نسق واحد يشمل كل المجالات، ويجمع أطراف الكرة الأرضية في وحدة واحدة لا تتجزأ. بيد أن دمج العالم وإلغاء حدوده الجغرافية ، لم يكن ممكنا دون إلغاء الحدود المعرفية أيضا ، ونقد التمركز حول الذات ، فضلا عن نقد الثنائيات الميتافيزيقية والإبستمولوجية : الذات والموضوع ، الأنا والآخر ، الشرق والغرب ، الداخل والخارج ... إلخ ، والتحول نحو أنموذج جديد - Paradigm ينطوي بدوره علي مفاهيم وقيم جديدة ، أجملها الفيلسوف الفرنسي " بسراب نيكولسكو " - Basarab Nicolescu في : التحول عن العقلانية المفرطة إلي الحدس والكشف، عن التحليل إلي التركيب، عن الاختزال إلي التكامل، وعن مراكمة المعلومات إلي المعرفة كوظيفة وجودية . وليس القصد استبدال مفهوم جديد بمفهوم قديم، بقدر ما هو التحول عن التشديد المفرط علي أحد المفهومين إلي توازن أعظم بينهما . من هنا يسعي نيكولسكو اليوم إلي تأصيل هذا المصطلح كسياق مضاد لفكرة "موت الإنسان" و "نهاية التاريخ" و "صدام الحضارات"، ولحسم الصراع بين الكوننة والخصخصة ، وذلك في مؤلفه الأساسي " العبر مناهجية ". ونيكولسكو عالم وابستمولوجي فرنسي من أصل روماني، يشرف علي المركز الدولي للأبحاث والدراسات ل " العبر مناهجية" - Transdisciplinarity ، ويعمل في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا ويدرس في جامعة باريس السادسة. له مؤلفات عديدة ، تعتبر شهادة حية عن نشاطه، حيث أنه متخصص في دراسة القسيمات الأولية للفيزياء النظرية (الكوانتية)، ومهموم في الوقت نفسه بعلم تاريخ الأفكار ، وبحث العلاقة بين العلم والفن والتراث المنقول، وتشييد الجسور بين المناهج وعبرها وما يجتازها. بيد أن "نيكولسكو - يستخدم البادئة اللاتينية - Trans، استخدامًا مراوغًا، وحسب لالاند - Laland : "فإن - Trans ، وتعني "عبر" (من خلال، فيما يتعدي) بادئة كثيرة الاستعمال لدي الفلاسفة المعاصرين، لابتكار ألفاظ جديدة تقابل مفهومًا بما يتعداه ويتخطاه، وهذا التخطي يمكن فهمه، من جهة أخري، بمعان شتي. وتشير هذه اللفظة عند نيكولسكو إلي ما هو ، في آن معًا : بين المناهج وعبرها، وفيما يتعدي كل منها علي حدة، وغايتها فهم العالم الحاضر، الذي صار فيه توحيد المعرفة الإنسانية إلزامًا يتاخم الضرورة القدرية، وعليه تتوقف نجاة الإنسانية كنوع. كما أنه يميز بين المعاني التالية: تجاوز" و "خرق" و "عبر" و"من خلال"، ويربط بينها جميعًا في الوقت نفسه، كدلالات متواشجة للفظة - Trans وعلي سبيل المثال، يستخدم كلمة خرق Trans بالمعني القانوني والحقوقي عند القانونيين، والتي تشير إلي انتهاك القانون أو النظام، وكأن - Transdisciplinarity تعادل خرقًا معممًا لفتح فضاء غير محدود من الحرية والمعرفة. ويقترح "نيكولسكو" اكتشاف روابط اجتماعية جديدة، عن طريق إيجاد "معابر" لأن غياب هذه المعابر بين الكائنات والأشياء ينفي إمكانية قيام حوار حقيقي بين أمم الأرض في عصر العولمة . ولإنشاء معابر كتلك يجب إنجاز ثورة حقيقية (في التعليم) وللفطنة قادرة علي فتح معابر بين الطبيعة والكيان الداخلي، الفطنة التي قوامها الوجدان، مما يوجب إضفاء بعد شعري للوجود. إن مصطلح " العبر مناهجية " يقود إلي سمة جديدة هي التسامح ، حيث أن الاختلاف والتعدد هو الأصل والأساس، وهو " ينتج عن اكتشاف وجود أفكار وحقائق مختلفة عن المبادئ الأساسية " مما يعني أن هذه المبادئ ليست مطلقة وإنما نسبية تقبل التعديل والتطوير والتغيير. يقول ألفرد نورث وايتهد في كتابه "العلم والعالم الحديث": إن الأمم الأخري ذات العادات المغايرة ليست أعداء بل هبات من الله، فالناس يتطلبون في جيرانهم قرابة تكفي للفهم، واختلافاً يكفي لإثارة الانتباه، وجلالاً يكفي ليبعث علي الإعجاب، والتسامح شرط لابد منه لنمو الحضارة وتطورها ، وبدون التسامح يهدر كثير من الخبرة الإنسانية القيمة . ويستطرد "وايتهد": "أن روح التسامح سوف تنتشر حين يطوف الناس حول العالم ويقصرون المسافة المكانية ، ويقومون برحلات في الزمان فيتعرفون علي حياة الماضي. ذلك يؤدي إلي الاعتراف بأن الأمم الأخري ذات العادات المغايرة، ليست أمماً معادية بل هي عطايا الله".